لقد ولّت منذ فترة طويلة تلك الأيام التي كانت تقوم فيها البغال بسحب أكوام من قرون الفانيليا الخضراء إلى المدينة، حيث كانت توضع على حصائر منسوجة لتجف تحت أشعة الشمس، حيث كانت تتعطر الشوارع قبل أن تتم تعبئة الفانيلا وبيعها في الخارج.
وتشير صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأمريكية في تقرير لها، إلى أن المنتج العطري كان في يوم من الايام مسيطرا على الحياة اليومية في هذه الزاوية من شرق المكسيك، المعروفة باسم "المدينة التي عطرت العالم"، حيث ساهمت في أن تصير المكسيك المورد الرئيسي للفانيليا في العالم قبل أكثر من قرن من الزمان.
وقد تغيرت الأسواق منذ فترة طويلة وصارت الفانيليا الاصطناعية هي المستخدمة عالميا في الوقت الحالي. ولكن في "بابانتلا"، وهي مدينة في ولاية فيراكروز المكسيكية - حيث لا تزال الفانيلا مرتبطة بقوة بهوية الأفراد - يسعى العلماء والطهاة والمزارعون بقوة لإعادة التأكيد على مكانتها. والسؤال هو، هل يمكن أن تزدهر نهضة الفانيليا بالمكسيك في النهاية؟
وفي هذه المدينة التي يعيش بها 160 ألف شخص، يقوم الحرفيون بصنع تماثيل صغيرة من سيقان الفانيليا ذات اللون البني الداكن اللامع. كما تقدم المطاعم أطباقا مضاف إليها الفانيليا. بالإضافة إلى أن هناك لوحة بارزة موجودة في أهم ساحة بالمدينة، تروي "أسطورة الفانيليا" والقصة وراء ظهور الفانيليا في الأصل من دماء أميرة جميلة من السكان الأصليين، كان الكهنة قد قاموا بقطع رأسها بسبب انخراطها في علاقة رومانسية.
ويقول لوسيو أولموس موراليس، وهو أحد الحرفيين المحليين الذي يعمل عادة على طاولة في شرفة منزله، حيث يقوم بنسج قرون الفانيليا وتحويلها إلى تيجان وخرز للمسبحة وزهور: "إذا كانت هناك أفكار سيئة تساور المرء، فإنها تختفي، وإذا كان غاضبا، فإن الغضب يختفي، لأن الرائحة تكون لها تأثير عالي يبعث على الاسترخاء".
واكتشف سكان "توتوناك" الأصليون، كروم الفانيليا التي كانت ذات يوم تنمو في هذه المنطقة الممطرة، وأطلقوا عليها اسم بساتين فاكهة الـ "زانات"، وكانوا يستخدموها كعطر، حيث كانت النساء تقوم بتعطير شعرهن بالقرون، ولكن لا يوجد سجل لاستخدام سكان "توتوناك" للفانيليا في الطهي، بحسب تيم إيكوت، مؤلف كتاب "الفانيليا: رحلات للبحث عن أوركيد الآيس كريم".
وفي وقت لاحق، تردد أن شعب الـ "أزتيك" استخدم الفانيليا لإضفاء نكهة على مشروب الشوكولاتة، الذي كان يتم تقديمه في كؤوس ذهبية للإمبراطور "موكتيزوما".
وفي النهاية أخذ المستعمرون الإسبان الفانيليا المكسيكية إلى أوروبا، حيث كانت تستخدم من قبل الطبقة الأرستقراطية في صنع مشروب الشوكولاتة الساخنة. وكان يتم تلقيح الفانيليا بصورة طبيعية بواسطة النحل في المكسيك، وعندما حاول الأوروبيون زراعة النبات في بلادهم، نادرا ما كان يسفر عن إنتاج قرون الفانيليا.
ولكن في منتصف القرن التاسع عشر، اكتشف أحد العبيد في جزيرة ريونيون بالمحيط الهندي كيفية تلقيح الفانيليا يدويا بكفاءة. ومع اعتماد المزارع الفرنسية هناك بالإضافة إلى أماكن أخرى في المحيط الهندي لهذه التقنية، فقدت المكسيك مكانتها كمنتج رئيسي للفانيليا بحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومع ذلك، ظل إنتاج الفانيليا في "بابانتلا" مزدهرا في أواخر القرن التاسع عشر، بفضل حجم الشعبية التي كان يحظى بها الآيس كريم في الولايات المتحدة.
وفي العقود التالية، ساهم انتشار الفانيليا الاصطناعية، والتنافس في الانتاج مع دولة مدغشقر - الرائدة الحالية في سوق الفانيليا - في انخفاض إنتاج الفانيليا بالمكسيك.
ويقول إيميليو كوري، وهو مؤرخ ومدير لـ"مركز كاتز للدراسات المكسيكية" في جامعة شيكاغو: "لقد تحول سوق الفانيليا إلى منتج رخيص يتم إنتاجه بكميات كبيرة، وظلت المكسيك تنافس فيه لفترة من الوقت، ولكنها لم تستطع مواكبة ذلك".
فيما تقول جوزفين لوتشهيد، الرئيسة التنفيذية لشركة "كوك فلافورينج" المتخصصة في إنتاج الفانيليا، والتي تتخذ من كاليفورنيا مقرا لها، والتي تشتري معظم كمياتها من الفانيليا من مدغشقر، إن دورات الازدهار والكساد في السوق اليوم أدت إلى تأرجح سعر الفانيليا المعالجة من نحو 300 دولار للرطل إلى 7 دولارات فقط.
جدير بالذكر أن المكسيك تعد ثالث أكبر دولة منتجة للفانيليا الطبيعية في العالم، فيما تحتل إندونيسيا المركز الثاني، بحسب البيانات الصادرة في عام 2022 عن منظمة الأغذية والزراعة. وقد تم بيع معظم كميات الفانيليا الخضراء التي أنتجتها المكسيك في عام 2022، والبالغ حجمها 515 طنا محليا، وفقا للحكومة المكسيكية.