كتب .. رعد أطياف
في عالم أحادي القطبية، ومٌقَسَّم نفوذه بشكل دقيق، ويعد الجزء الأبرز منه عبارة عن "مجال حيوي" للقوى العظمى، يبدو فيه الاختيار معدومًا، ذلك أن الدول الطرفية لا تملك ترف الاختيار على الإطلاق، وإن حاولت، ستغدو أثرًا بعد عين. في عالم قائم على الهيمنة، لا سبيل إليك سوى السير في ركاب التوازنات، والعمل، بأقصى ما يمكن، على الهامش المتاح لك، و"اختيار" النموذج الذي يتمتع بحوافز مجزية، خصوصًا إذا كان هذا النموذج يحظى بقبول واسع كنموذج الولايات المتحدة.
لذا، لا يبدو الأمر محيرًا ومتناقضًا، بخصوص تلك الميول الحادة لدى الكثير من العراقيين، بالترحيب بكل ما هو أمريكي، في حين يتحرك لديهم نفور غريزي، وفي بعض الأحيان شديد العدوانية تجاه السياسيات الإيرانية، وبالخصوص في السنين التي تلت سقوط نظام البعث على يد الاحتلال الأمريكي. حتى لو كان الأمريكان هم الطرف المساهم في جعل العراق منطقة مفتوحة للجانب الإيراني، لكن يمضي مؤشر التفضيلات عند الأجيال الجديدة نحو النموذج الأمريكي!
نفور سنة العراق، مثلًا، لا يخلو، في جزء منه، من إشارات طائفية، نتيجة العداء المذهبي التاريخي. بيد أن مخاطر تصدير الثورة الإيرانية، يشكل هاجسًا مقلقًا لدى عموم العراقيين، ولا يُعَد نموذجًا مقنعًا وحافزًا مغريًا للأجيال الجديدة.
لقد امتدت واستطالت، هذه الميول الحادة، لتشمل قطاعات واسعة من الجمهور الشيعي، الذي كان يتعاطف مع الجمهورية الإسلامية فيما مضى. فبالتالي، لم تعد مشاعر الاستياء يغذيها فقط الجانب الطائفي، بل ثمة وعي سياسي يتنامى لدى عموم العراقيين، دافعه الحرص على هويتهم الوطنية ومصالحهم الحيوية. هذه المشاعر هزتّ عموم العراقيين، وألقت بظلالها على عراق ما بعد 2003.
لقد كان شعار "إيران برّة برّة" الذي أطلقته جماهير، وبحسب الخارطة المذهبية، ذات أغلبية شيعية، ومنهم "التشرينيين" على وجه الخصوص في انتفاضتهم الوطنية، لهو الحدث السياسي الأبرز في "العراق الجديد". ويشير بشكل بارز، أن الأجيال الجديدة تحمل على عاتقها بشائر ولادة هوية وطنية، رغم تعثرها وتعرضها لقمع شديد القسوة، تلتحم عناصرها وتُرسَم حدودها من داخل البلد، بمعزل عن أي وشائج دينية أو مذهبية عابرة للحدود. ولذلك نجد جمهورًا شيعيًا واسعًا، ينمو بشكلٍ مضطرد، يقف بالضد من السياسيات الإيرانية تجاه العراق، حتى وإن كان متعاطفًا معها مذهبيًا.
اتضح لهذه الأجيال، الدينية منها والدنيوية على حد سواء، أن الجمهورية الإيرانية لا تتمتع بالنموذج النافع والحوافز المغرية. وما نشاهده من تفضيلات، ومقارنات بين عموم العراقيين حول هذه القوة أو تلك، يدلنا بما لا يقبل الشك، أن الناس تبحث عن نموذج ملموس، وحوافز مقنعة، وميل غريزي، نحو من يمتلك القوة المتكاملة (سياسية، اقتصادية، عسكرية، ثقافية). هذه القوة الأمريكية المهولة، أفرزت لنا دولًا رائدة في الإقليم الآسيوي، دون أن نذكر المجهود الذاتي لهذه الدول. ولا ننسى الاشتراط الأميركي مقابل حماية هذه الدول: وهو أن تتحول طوقًا عازلًا تجاه التمدد الصيني. هذا هو الثمن الذي ينبغي على الأعضاء دفعه مقابل الدخول في هذا النادي الكبير، والحصول على نموذج عملي نافع وحوافز إضافية. فأنت في نهاية المطاف لا تمتلك ترف الاختيار، و"ستختار" النموذج الأقوى والأقدر على توفير الحوافز.