الصفحة الرئيسية / محنة التعليم في العراق

محنة التعليم في العراق

كتب: فرات المحسن


في تقرير للبنك الدولي عن مستوى التعليم في العراق، قدم إحصائيات مفزعة عن مستوى وعي الطالب العراقي وإدراكه لما يملى عليه من معارف. فقد اظهر طلاب العديد من المستويات الدراسية، ومن خلال التقييم أعلاه، ضعفا شديدا في المهارات وعجزا فاضحا عن فهم ما يقومون بقراءته وتعلمه، وأبدى ما يقارب النصف من الطلاب وبشكل بائس عن عدم قدرتهم الإجابة بشكل صحيح على سؤال واحد ضمن مستواهم العمري والدراسي، ولم يتمكن نصف الخاضعين للاختبار والتقييم، من حل مسالة حسابية واحدة بشكل صحيح. هذا التقرير وغيره من الاستقصاءات والبحوث التي حاولت استعراض حالة وأوضاع العملية التربوية التعليمية في العراق، أشارت وبشكل مفزع لقصور وعجز فاضح في هذا النظام. وحددت الحاجة الفعلية الملحة والمستعجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتدارك الانهيار التام، بوضع خطط قصيرة ومتوسطة المدى للخروج بالتعليم في العراق من حالة التردي والانحطاط التي وصل إليها.


ولكن يبدو أن النمط الشائع في التصدي للعملية التربوية في العراق، هو التخبط ومحاولات التصحيح الخاطئة والبعيدة عن إدراك مناطق الخطل والخلل ، والتي دائما ما تسحب هذه المعالجات، السيئ نحو الأسوأ، بدلا من تصحيح الأخطاء أو تلافيها،ولذا وعلى مدى تاريخ طويل من عمر الدولة العراقية، تتراكم الخطايا والموبقات، لتزيد من حدة التردي والفساد. وبات من العسير معها ومن غير اليقين القدرة على إصلاح ما وصل الحال فيه لحدود الجريمة المقترفة بحق العملية التربوية برمتها، وانعكس هذا على باقي مناحي الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لا بل لمفردات الحياة اليومية للشعب العراقي بكافة قطاعاته، وليمثل ذلك بكامل مظاهره و تجلياته ذات أهداف الفكر الإرهابي التكفيري.

عام 1958 وتبركا بانتصار ثورة الرابع عشر من تموز أقدمت قيادة الثورة على منح الطلبة العراقيين، ما اعتقدته مكرمة تجلب الفرح والسعادة لقلوبهم، وتجعلهم وأهاليهم يستبشرون خيرا مع قدوم عهد الثورة المباركة الجديد .لذا قررت قيادة الثورة ووزارة التربية آنذاك، عدم اعتبار السنة الدراسية لعام 58 سنة رسوب .أي أن المتخلفين والراسبين من الطلبة في الامتحانات النهائية، رحلوا إلى صفوف متقدمة دون الأخذ بنتائج الاختبار الدراسي النهائي .

وبالرغم من تحذيرات البعض من التربويين والمختصين في مجال العملية التربوية والأكاديمية، حول الأضرار المستقبلية التي سوف تلحق بالعملية التربوية، جراء القرار الذي أطلق عليه حينذاك تسمية (الزحف ) ، فقد نفذت سلطة ثورة 14 تموز تعهدها، وكانت الفرحة كبيرة وشاملة لدى من كان متخلفا عن أقرانه من الطلبة.


لم تمض غير سنوات قليلة حين ظهر خطل ومضار ذلك القرار على مجمل العملية التربوية، وظهرت نتائجه السلبية في الكثير من مجالات التدريس والبحث، وبالذات في المدارس الثانوية والمعاهد والجامعات العراقية، وبدأ التشكيك برصانة العملية التربوية في العراق يأتي ليس فقط من بين أوساط الباحثين والتربويين العراقيين وإنما بادرت الكثير من الهيئات التعليمية والجامعات في أغلب دول العالم، والتي كانت لها علاقة جيدة بالعملية التدريسية العراقية،بدأت تشكك بقدرات ونتائج الطلبة العراقيين وتحصيلهم الدراسي.


وبالرغم من كون العملية التربوية اتجهت نحو علاقات أكاديمية وتربوية جديدة مع بلدان المنظومة الاشتراكية تعويضا عما أصابها من خسائر جراء العلاقات المتوترة مع الغرب على مختلف الأصعدة، ومنها العلاقات في جانب العملية التربوية والمتعلقة بالمنح والزمالات الدراسية، فأن الأمر أحتاج للعديد من السنوات للتعويض وتجاوز الخسائر والأضرار واستعادة العملية التربوية العراقية عافيتها ومنهجيتها الرصينة.


ما ترتب ونتج من أضرار عن ذلك الأجراء غير الحكيم، كان الواجب أن يكون درسا وإنذارا لتنبيه من يريد للعملية التربوية أن تكون أكثر رصانة وقوة وشفافية وفاعلية، وأن توضع قواعد صارمة توقف أي نوع من القرارات غير المدروسة،والتي ممكن لها المساس بالعملية التربوية، لما لذلك من تأثير على الحياة العلمية والعملية للعراق برمته.


من الجائز القول إن بداية سنوات السبعينات كان باستطاعة المرء وببساطة ملاحظة التحولات النوعية في مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق.وكانت تلك النقلات النوعية السريعة التي حدثت تضفي جانبا إيجابيا وتدلل على رغبة عارمة لدى المجتمع العراقي لاكتساب المعرفة والحصول على أحدث التقنيات والخبرات.ولكن تلك المكاسب والمنجزات أصيبت بانتكاسة خطيرة، ولم تستمر بذات الوتائر من التسريع لاكتساب المزيد من المعارف، وإنما قننت لصالح مشروع عسكري سلطوي. فقد تم تحويل تلك المعارف والخبرات والتقنيات لغرض بناء مشروع عسكري وترسانة سلاح هائلة، وترافق ذلك مع عسكرة واسعة للمجتمع، ومن ثم كانت النتيجة النهائية لتلك الإجراءات، حروب داخلية واعتداء على الجيران في غزوات بربرية عممت الخراب والكوارث. وقد وقع العراق من جراء ذلك الاستغلال المشوه للعلوم والتقنيات الحديثة في مطب خطر، قاد في نهاية الأمر نحو تدمير الحياة الثقافية والعلمية والاقتصادية.


لقد وضع المتخلفون من رجال سلطة البعث جميع موارد الدولة ومرافقها وبالذات العلمية منها طوع هوسهم ورغباتهم العدوانية. وكانت في مقدمة أهدافهم الحرص على ربط التغيرات الاقتصادية والعلمية والثقافية، بالتدابير السياسية التي تصب جميعها في الرغبة لإعادة ترتيب البيت العراقي، وفق النموذج الشمولي البعثي وتحت شعار (( كل شيء من أجل المعركة)).وما كانت تمثل تلك النداءات المستمرة عن المعركة الموعودة المفتوحة الاتجاهات والمتعددة الأغراض والأهداف لدى حزب البعث، سوى مفهومين متوازيين، تتمحور داخلهما باقي المهام والتطلعات ويبقيان دائما في طليعة الأهداف التي تؤطر المساعي الأخرى، أو أن المهام الأخرى يجب أن تستنبط من خلالهما، وتصب في خدمتهما في مختلف المراحل. وهذان المفهومان هما إخضاع وترويض أو تدمير مخالفي الرأي ومن ثم عسكرة المجتمع.


إخضاع أو ترويض الخصوم ومخالفي الرأي، أعتبر جزءاً مهما من البناء المرحلي التصاعدي لأسس المعركة التي أريد أن يسخر لها كل شيء.وهذا الجانب إحتاج لتنفيذه طرق واختبارات عديدة.ومن تلك الطرق أسلوب الدوائر المغلقة، أو تنقية المراكز باتجاه الأطراف.حيث تكون بعض مرافق الدولة أو مؤسساتها حكرا على منتسبي حزب البعث، ولا يقبل فيها سواهم، مهما كانت الحاجة أو الضرورات.ولذا اعتبرت المؤسسة العسكرية في مقدمة الدوائر المغلقة، لا يقبل التطوع فيها لغير البعثيين.ومثلها مؤسسات الأمن والشرطة وبعض الدوائر الحكومية القريبة أو التي تصب خدماتها في صالح الجيش وأجهزة الأمن، وكانت تلك المهمة سهلة الإنجاز.ولكن للسيطرة على وإغلاق المؤسسات التربوية فقد إحتاج الأمر لفترة زمنية طويلة بعض الشيء، وبدأ تنفيذه بآليات منهجية محكمة، شملت كامل هياكل مؤسسات الدولة التربوية والأكاديمية، وبالذات منها التعليمية، حيث أقتصر القبول في الكليات والمعاهد التي تخرج المدرسين والمعلمين على غالبية من الطلبة البعثيين، وتطور الأمر مع مرور الوقت، لتقفل تلك المؤسسات الأكاديمية بوجه من لم يحصل على تزكية حزبية، ثم تبعه تأطير كليات ومعاهد محددة، واقتصار القبول فيها على الطلبة من البعثيين، مثل كلية التربية والهندسة وأكاديمية الفنون والجامعة التكنولوجية وكليات أخرى.


مثلت الحرب العراقية الإيرانية منعطفا جديدا أضفى تداعيات خطيرة على العملية التربوية، ليس فقط على مستوى المناهج وإنما تعداه نحو عموم الجو الدراسي وحجم الملاك التدريسي، مما أضطر السلطة لدمج المدارس واختزال التعليم إلى أدنى مستوياته، تلبية لما سمي باحتياجات المعركة. فقد كانت أعداد كبيرة من خريجي الدراسات الجامعية والمعاهد، يستدعون إلى الخدمة العسكرية أو يساقون في فصائل الجيش الشعبي التي تتوجه شهريا نحو جبهات القتال، حيث تذهب منهم أعداد لا يستهان بها كضحايا لتلك الحرب العبثية المجرمة، يضاف لذلك هروب البعض أو تهربه من الخدمة العسكرية،مما سبب شحا فعليا في عدد الكادر التدريسي في عموم العراق.


يمكن القول إن من أكثر مسببات الخراب العام الذي طال العملية التربوية يقع عند وجهين متلازمين، وهما السببان الرئيسيان اللذان نشرا السوس الذي نخر العملية التربوية برمتها، الأول: مشاركة الطلبة في العمل الحزبي وقواطع الجيش الشعبي.فالطالب يمنح درجات أضافية تفوقيه حسب عدد مشاركاته في قواطع الجيش الشعبي أو مقدار النشاط والخدمة الحزبية في منطقته.هذه الدرجات الإضافية تسمح له التفوق على باقي أقرانه ممن لم يؤدوا ذات العمل العسكري والسياسي .ويمكن للطالب الحصول على درجات إضافية إذا كان أحد أقاربه من الدرجة الأولى، قد قتل في جبهات القتال أو نال أحد أنواط الشجاعة.


من خلال هذا الأمر إستطاع الكثير من الطلبة وبالذات طلبة الإعدادات والثانويات الحصول على معدلات تفوق كبيرة، ساعدتهم في الدخول إلى كليات لم تكن معدلاتهم الحقيقية تسمح بأن يجلسوا على مقاعدها الدراسية أو الحلم بمثل هذا الأمر أو حتى الحصول على فرصة الدراسة في المعاهد التأهيلية. فطالب المرحلة الإعدادية بمعدل درجات تخرج واطئة جدا، يحصل على درجات إضافية لمشاركته في الجيش الشعبي وعن مشاركته في جبهات القتال و لحصوله على نوط شجاعة، و درجات أخرى عن مشاركته في الواجبات الحزبية في المقرات، وكذلك درجات إضافية عن تبرع عائلته بالمال لدعم المعركة، وربما نال درجات أخرى لأسباب عديدة يتم تصنيفها وترتيبها في المؤسسة الحزبية والأمنية، التي باتت تشرف على كل شيء في أرض العراق.إذن فأن الطالب هذا قد حصل على معدل يفوق درجة 100 % ، ولن يستطيع أن ينافسه أي معدل أخر، ومع هذا المعدل أصبح بوسعه الدخول في أي كلية يختارها دون اعتراض أو عوائق.


الوجه الأخر للمصيبة تمثل في قوة وسطوة القرار التسلطي الذي فرض في المدارس والجامعات من قبل الجهاز الحزبي الذي مثله الاتحاد الوطني لطلبة العراق. فتلك المؤسسة الحزبية الأمنية مثلت عند نهاية السبعينات سلطة القرار الفعلي الذي يفرض شروطه وإرادته، ليس فقط على الطلاب وإنما بات يتحكم بالعملية التربوية بالكامل ويملي قراراته على الهيئات التدريسية. ومن خلال التقارير التي ترفع إلى الجهاز الحزبي والمؤسسات الأمنية، يتم التدخل لا بل إدارة العملية التربوية. وكانت تلك التقارير في أغلبها عبارة عن مديح للمتعاونين من الأساتذة، أسهمت في تقدمهم عبر السلم الوظيفي، أو وشايات وأكاذيب يراد بها تطويع من يرفض الوصاية أو يخالف القرارات الحزبية. وراح ضحية تلك التقارير الملفقة الكثير من التدريسيين الذين شملتهم عقوبات شتى، مثل الحبس أو الفصل أو النقل، ووصل في البعض منها إلى حالات التغييب والإعدام .


ومثلَ السوق لقواطع الجيش الشعبي الذاهبة لجبهات القتال واحدة من أكثر التهديدات والعقوبات شيوعا.وبسبب تلك التهديدات والوضع الاقتصادي السيئ، فقد بدأت هجرة منظمة للتدريسيين إلى خارج العراق.ولذات الأسباب إنصاع الكثير من التربويين وقدموا خدماتهم الطوعية وفق ما تمليه عليهم إرادة الحزب وذراعه الطلابي الاتحاد الوطني. فمنهم من تطوع ليقدم لبعض الطلبة أسئلة الامتحانات أو يتغاضى عن الغش، أو يرفع من الدرجة الممنوحة للطالب. وحدثت تجاوزات مفزعة وصلت في بعضها قيام الأساتذة بكتابة الرسائل والأطاريح، التي يريد الطلاب من المتنفذين في الحزب، تقديمها لنيل شهادتي الماجستير أو الدكتوراه.هذا الأمر ساعد على ضخ أعداد هائلة من التدريسيين الفاشلين بين أروقة وزارة التربية ووزارة التعليم العالي وفي المدارس والمعاهد والجامعات، وسبب في حدوث كارثة وطنية شاملة، تتمثل في سوء الإدارات لقطاع التعليم وإشاعة مناهج تعليمية ضيقة الأفق حزبية التوجه، ذات معلومات سطحية متخلفة، تقدم وتدرس بأساليب وطرق تدريس بائسة ومملة تعاني من الفقر المعرفي وغياب المنهجية.


إن دمار مؤسسات التعليم ينظر إليه ضمن الكوارث الناجمة عن الحروب، لكنه يشكل أيضا إحدى أسوأ عواقب العقوبات الاقتصادية والفوضى المستمرة.فقد شكلت سنوات العقوبات الاقتصادية القشة التي قصمت ظهر البعير.فعلى امتداد سنوات الحصار التي إستغلها نظام حزب البعث لصالحه بأقصى مديات الاستغلال، وحول الحصار الاقتصادي لتجارة درت عليه الأموال الطائلة، عانت المؤسسات التعليمية والعملية التربوية برمتها من الفوضى والنقص في الموارد المالية والمعرفية، وعاش العراق انقطاعا شبه تام عن العالم، ولم يكن ذلك ليقتصر على شح الموارد المخصصة لقطاع التعليم أو النقص في المصادر المعرفية والكتب ومواد القرطاسية فقط، وإنما أصبح قطاع التدريسيين وكذلك الطلبة عرضة للإفقار والجوع مما أضطرهم للبحث عن مصادر رزق أخرى لهم ولعوائلهم، وصار التدريس والتعلم يمثل الدرجة الدنيا في سلم أولوياتهم،وهجر الكثير منهم مقاعد الدراسة أو الأستاذية، ليبحث عما يسد به الرمق ويبعد غائلة الجوع، الذي بدأ ينهش الجميع دون السلطة الحاكمة.ومن أجل سد العوز باع بعض الأساتذة جهودهم ومعارفهم بأبخس الأثمان، حيث نشأت تجارة بيع وشراء واسعة، تبدأ من المراحل الدراسية الأولى حتى الدراسة الأكاديمية، وبرزت بحدة ظاهرة الدروس الخصوصية التي كانت تقتصر على الطلبة من ميسوري الحال، وفي تلك الدروس الخصوصية كانت تحدث مساومات لبيع الجهود والمعلومة، ويعتمد ذلك على مقدار المبالغ المدفوعة للأستاذ في الحصول على النتائج الإيجابية بالنسبة للطالب. ومنذ أواسط الثمانينات بدأ بتعيين وإشراك الخريجين الجدد في مجال التدريس، وهم أغلبية ممن كانوا قد حصلوا على شهاداتهم الدراسية عن غير جدارة وعبر الشراء بالمال أو مساهمة روابطهم الحزبية بشكل حاسم لمنحهم تلك الشهادة.

25-12-2022, 17:03
العودة للخلف