كتب .. قاسم حول
بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة واعتلاء الملك فيصل الأول عرش الوطن، نقلت الجاسوسة البريطانية "غيرترود بيل" المعروفة باسم "المسز بيل" والتي تسمى صانعة الملوك، نقلت الرقم الطينية السومرية كاملة من العراق وأودعتها في سرداب تحت المتحف البريطاني بلندن، يمنع الدخول إليه وزيارته. والرقم الطينية هي الصحيفة اليومية للشعب السومري، شعب ما بين النهرين. وكانت تكتب على الطين بالحروف المسمارية، وتشوى في الأفران، وعددها بعدد أيام حكم الملوك السومريين بعد إبداع الكتابة الأولى في تاريخ البشرية!
سمح لي بتصوير جانب من السرداب البريطاني، لمدة ساعة واحدة من الساعة الثانية عشرة حتى الساعة الواحدة، واستغرقت الموافقة ستة شهور كي أدخل السرداب لساعة واحدة، وقعت على وثائق تحتوي شروط التصوير والمسافة من الآثار وطبيعة الضوء الذي أستخدمه وكميته، وعدم لمس الرقم السومرية التي أصورها. ويعمل في هذا السرداب أكاديميون يفكون رموز الكتابة المسمارية ومحتويات الرقم الطينية "وهم من خارج المملكة البريطانية!"
منذ أن تولى الملك فيصل الأول عرش العراق، وبعد أن نهبت الآثار العراقية وأقامت في أكثر من بلد، بدأت الكاميرات السينمائية تشكل البديل المرئي بالصورة والصوت في تصوير أحداث العراق بديلا عن الرقم الطينية السومرية المدونة، وذلك من خلال وكالات الأنباء المصورة في بريطانيا، وعند تأسيس شركة نفط العراق، بادر الكاتب الفلسطيني "جبرا إبراهيم جبرا" بتأسيس قسم للسينما وتوثيق أحداث العراق أولا بأول، وصار يصدر ما يطلق عليه المجلة السينمائية، التي كانت تطبع في بريطانيا وتعرض في صالات السينما قبل برنامج الفيلم الروائي، وهي تشكل الجريدة المرئية للعراق الحديث، حتى انهيار النظام الملكي في الرابع عشر من تموز عام 1958 حيث تولت مصلحة السينما والمسرح تصوير أحداث العراق السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وكانت يوميات العراق المكتظة بالأحداث والمتغيرات والتظاهرات والانقلابات والفيضانات والشخصيات الوطنية وغير الوطنية والساسة والملوك والشعراء وطلبة المدارس الابتدائية والجامعات وأنهار العراق وأهوار العراق، والرسامين والنحاتين والمغنين والحركة اليومية التي تشكل ملامح العراق الحديث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كلها كانت توثق بالصورة والصوت، وتمثل بمجموعها هوية العراق وملامح العراق الناطقة.
كانت الأحداث العراقية تصور بالأفلام السينمائية وتشاهد من خلال موادها الموجبة "البوزتيف" ولها أصول سالبة هي "النيكتيف" وتمكن تلفزيون العراق في منتصف الستينات بتصوير الأحداث بأفلام ليست لها أصول سالبة، إنما بأفلام يطلق عليها "الريفرسل" كانت تصور وتحمض وتبث ضمن البث الحي للتلفزيون العراقي، لحين ظهور الشريط المغناطيسي "الفيديو". وكانت حقبة البعث السيء الصيت والسيء الوطنية، أكثر الحقب التاريخية العراقية توثيقا حيث سادتها الحروب والإعدامات والهجرات لسنوات، وكانت الأحداث تصور سينمائيا ومغناطيسيا. وبعضها يدرج في المجلة السينمائية المرئية القابلة للمشاهدة الجماهيرية وسوى ذلك، فهي مواد سينمائية خاصة برأس النظام المجنون للمشاهدة الشخصية، فهو شخصية مركبة سيكولوجيا وفيزيائيا!
حدث خطير في السينما
كان أحد دموي الساسة البعثيين العراقيين، وهو "مدير عام الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح والفنون الشعبية" يبحث في المجلة السينمائية المصورة عن شخصيات من حزب البعث في حياة العراق السياسية المصورة فعرضت أمامه على الشاشة أعداد من المجلات المصورة سينمائيا في صالة دائرة السينما، وحين شاهد على الشاشة لقطات كثيرة عن الزعيم الوطني الجميل "عبد الكريم قاسم"، نهض منفعلا وصاح لقد جئنا إلى السلطة وهذا لا يزال حيا. فجمع كل الأشرطة السينمائية المصورة عن الفترة من 14 تموز 1958 حتى الثامن من شهر شباط الأسود 1963 تاريخ أول انقلاب بعثي، وأحرقها في داخل مصلحة السينما والمسرح "وما يشاهد الآن من لقطات عن عبد الكريم قاسم ورفاقه أو بعض اللقطات عن الحياة العراقية في تلك الحقبة، إنما هي لقطات قليلة مصورة من قبل وكالات الأنباء العالمية" وعندما وصلني وأنا في بيروت، خبر أحراق تاريخ حقبة كاملة من الحقب السياسية العراقية والتي تمثل جانبا من هوية العراق، عقدت مؤتمرا صحفيا في نادي الجنوب اللبناني ببيروت، الذي يترأسه الشاعر اللبناني حبيب صادق، وأعلنت عن تفاصيل الجريمة. كان ذلك في العام 1972 وتلقيت أول تهديد من السفارة العراقية!
إذن، فتاريخ العراق المتمثل بحقبة الجمهورية العراقية بكل معطياتها لا وجود له في حياة العراقيين!
من سمات الحقبة الفاشية التي حكمت العراق منذ السابع عشر من شهر تموز 1968 وحتى التاسع من شهر نيسان أبريل عام 2003 أن الدكتاتور العراقي وهو شخصية مريضة ومهووس بشخصه وعظمته كان من سيكولوجيته مشاهدة التنكيل بخصومه وكانت المشاهد المرعبة للتعذيب في بيوت الأشباح والمعتقلات والإعدامات في السجون وفي الساحات وطرائق الموت المبتكرة من الإذابة بالأسيد في الأحواض إلى الموت تسميما بالثاليوم في عصائر البرتقال إلى الإعدامات في جبهات القتال خلال الحروب من قبل فرق الموت إلى المحاكمات الحزبية وقراراتها العدمية.. كلها كانت توثق بالصورة والصوت، وكانت تصور وترسل إلى مخابر "ميكروستامبا" في إيطاليا وتعود ليشاهدها الدكتاتور منتشيا بعظمته. وبعد المشاهدة، كانت تحفظ في مصلحة السينما والمسرح وبدون دراية وعن جهل أو لعدم كفاءة العاملين، كانت ترمى في سراديب نتنة تنزل عليها مياه الأمطار من سقوف مهدمة، فتنزل الأمطار على تلك الوثائق الفيلمية وبدون كهرباء بشقيها السالب والموجب "النيكتيف والبوزتيف" فيما تقتضي أصول حفظ الوثيقة السينمائية أن يحفظ النيكتيف بدرجة حرارة خمس درجات تحت الصفر وخالية من الرطوبة والغبار فيما يحفظ البوزتيف بخمس درجات مئوية، وعادة تحفظ في مخازن تسمى بنوك الأفلام وتسمى أحيانا قاصات الأفلام. فيما تكدست الأفلام الخطيرة في درجة حرارة تفوق الخمسين مئوية صيفا وبدرجة تحت الصفر شتاء تحت الأمطار والأتربة. وبذا صارت الأفلام تحت رحمة الاضمحلال والتلاشي!
وتعرضت تلك الوثائق الفيلمية بعد سقوط النظام الدكتاتوري إلى سرقات منظمة من قبل مؤسسات صحفية وإعلامية عراقية معروفة داخل وخارج العراق، ومكونات سياسية وأفراد، وتسربت إلى بلدان الجوار وبعد الجوار من خلال شمال الوطن!
استطعت وبدعم من القوات المسلحة العراقية والشرطة الإتحادية من إنقاذ ما بقي من تاريخ العراق ووضعته في متحف يليق به، ولكنه لا يزال قابلا للاضمحلال والتلاشي إذا لم يصار إلى ترميمه ونقله على فورمات رقمية والاحتفاظ بالأصول السليلويدية السينمائية.
تتوفر الآن في هذا المتحف، بمعنى ما تبقى من تاريخ العراق المصور، ما يقرب من عشرين ألف ساعة فيلمية مصورة بين سالب وموجب، ناهيك عن التصوير التلفزيوني بشقيه الريفرسل والمغناطيسي وهي كمية أكبر بكثير من الأفلام السينمائية، لا تزال مرمية في سراديب مقر شبكة الإعلام العراقية. وهي بحاجة سريعة إلى إنقاذ وترميم!
مطلوب ترميم تاريخ العراق قبل أن يضمحل ويتلاشى، مثلما مطلوب ترميم العراق برمته قبل أن يضمحل ويتلاشى.. لقد خسرنا الرقم الطينية وتاريخ الحياة السومرية. وخسرنا الراية السومرية التي لا تقدر بثمن وهي مصنوعة من حجر اللازورد. رحلت الراية ورحلت رقمنا الطينية. سرق التاريخ ورحل، وأخاف أن تسرق الجغرافيا وترحل، إذ لا جغرافيا بدون تاريخ، ولا تاريخ بدون جغرافيا. ولمعلوماتكم فإن اللصوص مكلفون بهذه المهمة الخيانية، ومعروفون لهم صحفهم وفضائياتهم ودرابين شارع المتنبي، ولا تزال عيونهم شاخصة نحو تاريخ وجغرافية الوطن، يتلقون تعليماتهم وأجورهم من خارج العراق ومن داخل العراق أيضا!
هذه الوثائق الفيلمية والمغناطيسية هي ما تبقى من تاريخ العراق والذي تمثل هوية العراق.. فحافظوا عليه وحافظوا على وطنكم أيها العراقيون.. يرحم والديكم! وأحلفكم بـ الإلهين إنليل ومردوخ السومريين!