كتب .. حمزة مصطفى
لايزال في عمر المائة وهو قادر لا على الحكي فقط بل التنظير والتوجيه والنصح والأهم الأستذكار. هنري كيسنجر, إطلق عليه من الصفات ما شئت, الثعلب العجوز, عميد الدبلوماسية الأميركية لأكثر من نصف قرن, وربما بعد سنوات إن مد الله في عمره, وقد يمد, يصبح عميدا للبشرية بلا منازع على مستوى الأعمار التي هي بيد الله. في آخر الكتب الصادرة له وعنه "إستراتيجيات كيسنجر.. تأملات في الدبلوماسية والإستراتيجية الكبرى والقيادة" يروي أهم ماعاصره من أحداث وقضايا عندما إختاره ريتشارد نيكسون (الرئيس الأميركي الأسبق 1968ـ 1974) مستشاره للأمن القومي في ولايته الأولى, ووزيرا للخارجية في ولايته الثانية التي لم يكملها بسبب فضيحة "ووترغيت. في تاريخ كيسنجر الشخصي, مسألتان في غاية الأهمية وهما رؤيته لصلح ويتسفاليا في مطلع القرن السادس عشر الذي لايزال من وجهة نظره قائما بين دول القارة الأوربية, والثانية الإنفتاح الأميركي على الصين الذي تحقق بمبادرة وتخطيط منه أوائل سبعينات القرن الماضي. في هذا الكتاب الذي هو عبارة عن مقابة مطولة أجريت معه يروي الكثير من التفاصيل المثيرة أحداثا ووقائع ومفارقات تجعل القارئ ينشد الى الكتاب كما لو كان يقرأ رواية شديدة الإثارة والتشويق لا مذكرات سياسي يفترض إنه قال كل ماعنده وقام بكل مايقدر عليه من مهام منذ عشرات السنين.
كيسنجر ليس من هذا النمط من السياسيين ممن تصنفهم ويكوبيديا الأعمار إنهم بلغو أرذله بحيث يتقبل أسئلة ساذجة من قبيل متى تستيقط؟ ومتى تفطر؟ وهل تفضل القهوة بعد الأكل أو الشاي؟ وهل تفكر بالموت أو ماهي وصيتك؟ كل هذه الأمور لاتعني كيسنجر شيئا أو لم تعد تعنيه الآن. قد تكون كانت تعنيه حين بلغ عمره السبعين او الثمانين أو حتى التسعين, لكنه اليوم وقد ناف على المائة فلايزال قادرا على توجيه أهم النصائح الى القادة. يقول مثلا أن القائد لايحتاج الأ الى القليل من الذكاء مع أن القيادة من منظوره سجية, لكن القائد يحتاج أن يستأجر "نعم يستأجر" أناسا أذكياء. كيسنجر الذي لم يكن يعرف نيكسون شخصيا حتى اليوم الذي إختاره مستشارا للامن القومي هو من هذا القبيل الذي إستأجره نيكسون ليفتح له الصين بل وحتى روسيا ويمارس أخطر الأدوار إن كان على صعيد حرب فيتنام أو الحروب العربية مع إسرائيل لاسيما حرب 1973 وصولا الى إتفاق كامب ديفيد عام 1979 مع إنه كان غادر منصبيه, مستشار الأمن القومي, ووزيرا للخارجية. مما يرويه إنه لم يكن يعرف نيكسون على المستوى الشخصي بل كان جزء من فريق خصمه في الحزب الجمهوري روكفلر. مع ذلك حين إنتصر نيكسون على روكفر وفاز عن الحزب الجمهوري في معركة الرئاسة أصر نيكسون على إختياره مع إنه عمل على فوز روكفلر ضده. هذا يعني أن نيكسون لم يكن "قليل الذكاء" حين إستاجر ذكيا بمستوى كيسنجر. هذا إستنتاج كاتب السطور لا مؤلف الكتاب وهو أحد مساعدي كيسنجر ونيكسون القدماء وهو وينستون لورد . وبالعودة الى رؤية كيسنجر للدولة الوتسفالية التي يؤمن بها وكتب عنها الكثير إمتد الزمن به ليرى بأم عينيه فشل تلك الوصفة عبر الحرب الروسية ـ الأوكرانية التي قامت في أوربا بين دولتين من نفس القارة ومن نفس الدين والمذهب. والمسألة الثانية المهمة التي أمتد الزمن ليتعايش معها كينسجرهي إنفتاح بلاده على الصين الذي كان بمثابة فتح عظيم على مستوى التحولات الدولية سواء على مستوى العلاقة الصنينة الأميركية أو الروسية الأميركية. لكن هذا الإنفتاح تحول اليوم الى مأزق حقيقي لواشنطن بعد أن أصبحت الصين لا منافسا فقط بل مشروع عدو محتمل. ولعل من طريف ما يذكر أن الإنفتاح على الصين مر بعدة مراحل لم تنجح الإ عبر رسائل تم تبادلها بين البلدين عن طريق باكستان, ولأنه لم يكن وقتذاك من وسائل تواصل فإن تبادل الرسائل كان يستغرق أسابيع حتى يتم التفاهم بشأنها بين البلدين. والأهم فيما يروي إنه حين ذهب الى الصين لأول مرة في زيارة سرية كان قد إنقطع عن نيكسون أياما لأنه لم تكن هناك في الصين وسيلة إتصال أو تواصل مع البيت الأبيض. وعلى مستوى العلاقة الروسية الأميركية يروي كسينجر إنه بعد أن وافقت موسكو على عقد قمة بين نيكسون وبريجينف الزعيم الروسي آنذاك حصلت مفارقة أذهلت الأمن الرئاسي المرافق لنيكسون. فبعد العشاء بالكرملين طلب بريجينف من نيكسون أن يذهبا وحدهما الى قصر بريجينف الخاص الريفي بسيارة واحدة قادها بريجنيف بنفسه. تملك الخوف الفريق الرئاسي المرافق لنيكسون بعد أن تم منعه من مرافقة الرجلين فساورته مشاعر أن بريجنيف إختطف نيكسون ولم يعد يعرف حتى كيسنجر نفسه أين ذهب به الإ بعد ساعات من معاناة شعرنا حيالها بالكثير من القلق والخوف والرعب.