حسن الشنون
بمجرد وصوله إلى مقبرة وادي السلام التي تعد واحدة من أكبر مقابر المسلمين في العالم؛ أصيب الشاب علي رحيم بالهلع، وهو يرى سرقة أقبية الدفن الخرسانية للعديد من قبور عائلته بما في ذلك قبر والدته. مناظر القبور المحطمة التي سرقت شواهدها في سواد ليل المقبرة الحالك، تعكس هيبة الموقف وقساوته.
لا يمكن وصف شعور رحيم (37 عامًا) وهو يروي حادثة سرقة شواهد قبر والدته نهاية آذار 2022، في الفتحة السابعة بمقبرة وادي السلام بمحافظة النجف وسط البلاد
"قررنا الذهاب أنا وأخوتي إلى المقبرة والتحقق من الأمر والمشاهد كانت صادمة" يقول رحيم الذي لم يجد قبر والدته وأقربائه بالهيئة التي كان عليها في السابق.
رحيم يقول :"لصوص المقابر انتزعوا منها اللواح الرخامية التي نُقشت بأسماء الموتى، بهدف إعادة زخرفتها من جديد ووضعها على قبور أخرى مقابل مبالغ مادية، وسرقوا حتى إطارات الالمنيوم التي كانت تحيط بصورهم من أجل بيعها لتجار الخردة". هكذا اخبرهم الدفانون في المقبرة
ولا يخفِ علي رحيم، خوفه من تهديم قبر والدته بالكامل، بعدما تفشت ظاهرة هدم القبور عمدًا من أجل دفع ذوي الموتى لإعادة ترميمها مجددًا بهدف الربح المادي.
تداول العديد من المواطنين صوراً ومقاطع فيديوية على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر بشاعة الظاهرة التي انتشرت في المقبرة، على الرغم من القوانين التي تحميها.
من أبرز الأشياء التي تقلق النوم الأبدي لأولئك الذين دفنوا في الأرض، هي تلك العصابات المتخصصة بسرقة القبور، يقول علي وهو ينهمك برش الماء على قبر والدته في تقليد اعتاد عليه المسلمون.
ليست المرة الأولى
ظاهرة سرقة شواهد القبور من قبل اللصوص أصبحت شائعة، وتثير استياء العديد من ذوي الموتى الذين أصيبوا بالصدمة، يقول صاحب مكتب الدفن في وادي السلام، ثمار العبودي.
الأمر المثير للدهشة، بالنسبة للعبودي، أن الأشياء التي عادة ما يسرقها لصوص المقابر ليست ذات قيمة مادية تذكر، مثل إطارات الالمينيوم الخاصة بالقبور، وخزانات المياه التي توضع بالقرب من القبر بهدف الثواب والاجر، ومكبرات تشغيل القرآن والأبواب والشبابيك.
يقول العبودي، إن "اللصوص سرقوا في العام 2022 شواهد 50 قبرًا في الفتحة السابعة في يوم واحد فقط، وفي 2023 سرقوا 40 سماعة مكبر صوت وخزانين للمياه في 18 آذار من السنة الحالية".
ويعتقد العبودي أن القائمين على تلك السرقات ربما يكونوا لصوصاً من خارج محافظة النجف، ويستغلون الليل لإتمام عمليات سرقة القبور بواسطة دراجات نارية وفي بعض الأحيان بعجلات صغيرة على اعتبار أن المقبرة تخلو من كاميرات المراقبة".
العبودي لا ينفي وجود جهد أمني كبير للحد من هذه الظاهرة، إلا أن مساحة مقبرة وادي السلام الشاسعة تحول دون السيطرة عليها ببساطة حسبما يعتقد.
يرهن صاحب مكتب دفن الجثث، السيطرة على تلك السرقات من خلال تفتيش العجلات والدراجات النارية في مداخل ومخارج المقبرة. مؤكدًا بانها أفضل طريقة في الوقت الحالي للحد من تلك الاعمال المنافية للقانون والإنسانية.
بعد إخطار المواطنين للقوات الأمنية، باشرت شرطة محافظة النجف بوضع خطة محكمة للإطاحة بتلك العصابات، عناصر الشرطة بالزي المدني يختبئون في المقبرة في أكتوبر/ تشرين الثاني 2022، للقبض على اللصوص، يقول مصدر أمني في قيادة الشرطة.
وبعد كمين محكم، أعلنت قيادة الشرطة الإطاحة بشبكة تمتهن سرقة صور الموتى والزجاج والخشب وصناديق الألمنيوم المثبتة على القبور، بالإضافة إلى سرقة قطع معدنية أخرى في داخل القبور أو في مسارات المقبرة.
وفي اجراء مماثل، أعلنت قيادة شرطة محافظة كربلاء، في 17 آذار 2023، عن تفكيك واعتقال عصابة متخصصة بالسرقة في وادي السلام، وتمت احالتهما الى القضاء لينالوا جزاءهم العادل وفق القانون.
تجدر الإشارة إلى أن الحكومة المحلية في النجف كانت قد وعدت بتنفيذ مشروع لتسييج المقبرة بهدف تحصينها أمنيًا، إذ إن موقع المقبرة يطل من جهته الغربية على منطقة بحر النجف المفتوحة، لكن المشروع ظل على الرفوف من دون أن تفصح محافظة النجف عن أسباب تأخيره.
وكانت منظمة اليونسكو قد وافقت على إدراج مقبرة وادي السلام في لائحة التراث العالمي، باعتبارها أحدى أكبر مقابر العالم في النجف وأقدمها في العالم الاسلامي، فالمقبرة إلى جانب كونها تعود إلى أكثر من 1400 عام تضم قبور شخصيات تاريخية ودينية عديدة.
قبور باسماء متعددة
اتفقت هيفاء الجواد 41 عامًا في كانون الثاني 2022 مع أحد أصحاب مكاتب الدفن في النجف على إعادة ترميم قبر والدتها ، مقابل 400 الف دينار عراقي (250 دولار)، إلا أنها صدمت بما حصل.
"قررت زيارة قبر والدتي بعد أسبوع من الاتفاق مع الدفان على إعادة تأهيل القبر، وحال وصولي القبر في الفتحة الخامسة اندهشت بما رأيت"، تقول هيفاء التي تضيف "المرمر الذي استخدمه الدفان كان قد سرق من قبر امرأة أخرى ووضع على قبر والدتي بعد زخرفته بآيات قرآنية لإخفاء ملامح اسم المتوفية التي سرقت اللوحة من قبرها".
تقول هيفاء وهي ترمق قبر والدتها بتعجب واستغراب :"شاهدة القبر كان يحمل اسمين، الأول كتب عليه اسم والدتي والوجه الثاني للوحة المرمر كتب عليه اسم امرأة أخرى، حتى أن الدفان لم يقم بتثبيت اللوحة بل تركها فوق القبر وانصرف".
بطعم الكوميديا السوداء، تتساءل هيفاء "هل وصل الغش والنصب والاحتيال حتى على الموتى الذين لم يسلموا من أذية اللصوص؟".
وتتراوح أسعار بناء القبر في النجف ما بين 500 إلى مليون ونصف المليون دينار عراقي بحسب حجم وارتفاع القبر، والمواد المستعملة خصوصا فيما يتعلق باللوحة الرخامية الممتدة على طول القبر لكتابة اسم المتوفى وتاريخ ميلاده ووفاته.
عقوبات غير رادعة
لم يكن محتوى سرقة القبور أو تدنيسها، مفاجئًا من ناحية الحقائق التي يعرفها العراقيون، بحسب الخبير القانوني علي التميمي، الذي يقول إن "انتهاك حرمة الميت من الجرائم الاجتماعية المنصوص عليها في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل.
تعاقب المادة 373 من القانون بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد على مائتي ألف دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين من انتهك أو دنس حرمة قبر أو مقبرة أو نصب لميت أو شوه عمدًا شيئًا من ذلك.
وأضاف الخبير القانوني أن "المشرع العراقي أراد أن يحفظ للميت حرمته وعدم إهانته بعد وفاته ، لذلك نظم ذلك في العديد من التشريعات ومنها قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 وقانون حماية المقابر الجماعية رقم (5) لسنة 2006 ونظام المقابر رقم (18) لسنة 1935".
وعن تلك العقوبات، يرى التميمي، أن "العقوبة التي وضعها المشرع لهذه الجرائم المتعلقة بانتهاك حرمة الموتى والمقابر عقوبة بسيطة ولا تتناسب مع خطورة هذه الجريمة"، مقترحًا "تشديد العقوبة لاسيما إذا القصد من انتهاك حرمة الميت هو ما يتعلق بإعمال السحر والشعوذة التي أدت إلى هدم وتدنيس المقابر".
التميمي يؤكد أن "حماية جثة الميت وقبر الإنسان بعد وفاته يمثل قيمة قانونية وحق من حقوق الإنسان، وبالتالي لم تعد النصوص القانونية التي وضعها المشرع كافية لردع الجناة لذا توجب تدخله لتشديد العقوبات التي تضمن ردع هذه الظاهرة".