على الرغم من ضجيج السوق وأصوات باعة السمك والدجاج وزحام السيارات قربها، تطل مطحنة الزهراء بين كل تلك الازدحامات اليومية في سوق مدينة الكحلاء غربي ميسان، بشكلها القديم الذي يعرفه الجميع، حيث صوت آلة طحن الحبوب المستمر الذي اعتاده السكان في السوق القديم للمدينة
تعتبر مطحنة الزهراء ثاني أقدم مطحنة بمحافظة ميسان تم إنشاؤها في هذه المدينة لطحن حبوب الحنطة وكانت مزدهرة لسنوات طويلة ولم تتوقف عن العمل، لكنها في السنوات القليلة الماضية، تحولت بشكل كامل لطحن الرز وتحويله الى طحين لغرض عمله خبز (السياح) وهي أكلة تراثية قديمة تشتهر بها محافظة ميسان.
بملابسه الممتلئة بالطحين يصعد أبو سجاد (48 عاما) وهو صاحب المطحنة ليتابع سير عملها لإكمال طحن الرز، حيث يقول إن المطحنة ورثها عن أبيه التي ورثها هو الاخر عن جد جده أي بحدود أكثر من 200 عام، كان قد تعلم العمل فيها منذ طفولته وحتى اليوم.
تراجع
يعمل أبو سجاد في المطحنة طوال اليوم، ويساعده في العمل اثنان من العمال يديران عملية التعبئة واكمال الاكياس بعد عملية الطحن، ففي السابق كما يقول أبو سجاد، كانت المناطق المحيطة والأقضية القريبة على قضاء الكحلاء يقطع سكانها مسافات طويلة من أجل طحن الحبوب، لكن اليوم يقتصر العمل على الرز فقط ونادرا ما يتم طحن الحنطة.
عمل المطحنة ليس مثل السابق كما يقول ابو سجاد، حتى في طحن الرز، إذ يقول إن "إنتاجنا في العمل لا يجلب لنا سوى مردود بسيط من المال بالكاد يغطي أجور العاملين، لكن في بعض مواسم تسويق الحنطة يأتي الينا بعض المزارعين الذين لديهم كميات بسيطة من الانتاج لغرض طحنها".
واحدة من أكثر المشاكل التي تعانيها المطاحن في ميسان التي تمتلك مطاحن أكثر من غيرها من المحافظات، هي الاجراءات الحكومية والمستحقات المالية التي تتأخر بشكل مستمر، والعدالة في توزيع الحبوب على المطاحن التي تستحق العمل لإنتاج الطحين.
بحسب بيان لوزارة التجارة في العام 2021 فإن عدد المطاحن الأهلية في العراق التي تعمل بنظام البطاقة التموينية تبلغ أكثر من 284 مطحنة ببغداد والمحافظات، إضافة لما يقارب 14 مطحنة حكومية تابعة للشركة العامة لتصنيع الحبوب، 3 منها تم تدميرها من قبل تنظيم داعش الارهابي.
تحديات
الى ذلك يقول أحمد الساعدي (27 عاما) وهو عامل يعمل بمطحنة (عذيبة) التي تعود للسيدة عذبة وهي سيدة ميسانية كانت قد أسست هذه المطحنة بمنطقة الماجدية في ميسان عام 1980، إن "المطحنة تعمل على طحن حبوب القمح والشعير والعمل فيها يستمر لأكثر من 12 ساعة يوميا".
وسط إرهاقه وتعبه المستمر بعد يوم طويل من العمل، يؤكد أحمد بأن المطحنة لم تتلقَ أي دعم حكومي وتعاني من مشاكل بالتيار الكهربائي وانقطاعه المستمر رغم وضع أجور عالية من قبل وزارة الكهرباء.
يضيف أن "الحصة التي نتلقاها من الحبوب لطحنها لغرض إضافتها لمفردات البطاقة التموينية قليلة، وهناك مطاحن حكومية كبيرة تتولى ادارة المهمة، حيث أن المطاحن الأهلية في ميسان تحتاج الى الدعم من خلال زيادة حصتها من الحبوب من أجل الاستمرار بالعمل".
والمطاحن بصورة عامة كما يقول أحمد نوعان، حكومية وأهلية، في حين أن "الأهلية أغلبها غير مسجل كما يعرف الجميع، وهناك اكثر من 50 مطحنة في ميسان تتوزع ما بين حكومية وأهلية، وليست كلها تعمل في طحن الحبوب الذي توزعه الحكومة".
إحصائيات غائبة
وعن وضع المطاحن الاهلية وأعدادها وعملها بمحافظة ميسان، يؤكد رئيس غرفة تجارة ميسان علاء ولي خلال حديث مقتضب لـ"ميل"، أنه "لا يوجد لدى غرفة التجارة أي معلومات عن المطاحن في ميسان ولا تمتلك أي تفاصيل عنها".
يستورد العراق ما يقارب 2.5 طن سنويا من الدقيق الأبيض على الرغم من وجود مئات المطاحن الأهلية والحكومية المنتشرة في مناطق واسعة في العراق، في الوقت نفسه يعاني اصحاب المطاحن الاهلية من عدم الحصول على مستحقاتهم المالية بالوقت المناسب مقارنة بالمطاحن الحكومية التي تسير فيها الاعمال بشكل انسيابي.
إعادة إحياء المطاحن
يقول الخبير الاقتصادي الأكاديمي سالم سوادي لـ"ميل"، إن "عدد المصانع المتوقفة يقدر بـ18 الف مصنع معطل عن العمل ومن ضمنها المطاحن الخاصة التي كانت احد الروافد الهامة التي ترفد مادة الطحين للبطاقة التموينية".
ترجع الأسباب في خروج هذه المصانع عن دورها الاقتصادي كما يقول سوادي إلى "غياب الدعم الحكومي اللازم لهذه المصانع، فضلا عن غياب دعم المنتج المحلي وتحديد المواصفات اللازمة له، ومن ثم أن الحاجة الماسة للسوق من مادة الطحين المسمى (الصفر) المستخدم في صناعة المعجنات والخبز قادت التجار إلى استيرادها من تركيا بأكثر من مليون طن سنويا".
يضيف سوادي أن "دور هذه المصانع (المطاحن) يبرز لو كانت فاعلة ومطورة بأحدث وسائل الإنتاج التكنولوجية، وكانت ستغطي احتياج السوق وتساهم برفع نسبة المساهمة في الناتج المحلي الاجمالي، علما ان الموسم الحالي يبشر بارتفاع نسبة زراعة محصول القمح في العراق، مما يستدعي إعادة الحياة لهذه المصانع (المطاحن) بتوجيه ودعم حكومي لحاجة السوق لها ودورها في الاقتصاد المحلي".
وتنتج المطاحن العراقية حوالي 40 الف طن سنويا بينما السوق المحلي يحتاج الى أكثر من مليونين من الدقيق الأبيض بحسب مراقبين في الشأن الاقتصادي، كما أن وزارة التجارة لا تجازف بالإعتماد على المطاحن القديمة في إنتاج الطحين الأبيض، كونها غير منضبطة بالمواعيد وتشهد ببعض الأحيان حالات غش مما يؤثر على جودة الإنتاج.