بدأت مطارات العراق هذه الأيام تشهد توافد أعداد من المغتربين تزامناً مع عطلة أعياد الميلاد ونهاية السنة، لا سيما العوائل المقيمة في أوروبا، وهي حالة لم تكن معهودة في السنوات السابقة، على الأقل في آخر أربعين سنة، حين كان فيها العراقيون يبحثون في طرق الهجرة عن ملاذ آمن، أو فرص للاستقرار والتطور الاقتصادي، للدرجة التي تصدَّر فيها ذوو الأصول العراقية قائمة الأكثر طلباً للجوء على مستوى العالم.
ولعل الاستقرار الأمني والسياسي، الذي يشهده العراق منذ نحو سنتين، بات يشكل عناصر الجذب الرئيسية لجميع المهاجرين والمغتربين، فضلاً عن الأوضاع المعيشية الأسهل في العراق مقارنة بصعوبات الخارج، بلحاظ جملة متغيرات حدثت في أوروبا مؤخراً تسببت بارتفاع السلع والخدمات إلى مديات عليا، يرافقها متغيرات مناخية قاسية، وأوضاع سياسية متشددة في ظل صعود قوى العنصرية وحركات اليمين المتطرف.
والأكثر طموحاً في هذا المشهد سعي الآباء والأمهات لخلق وشائج تربط الأبناء بجذورهم الاجتماعية، بعد أن صارت دول الاغتراب تتفنن في فرض قوانين صارمة تحت شعار الاندماج، الذي بات يوماً بعد آخر يتحول إلى قيد يحاصر التنوع والتعددية الثقافية، بل ووصل الأمر إلى تحريم (الجنسية المزدوجة)، كما حصل في ألمانيا، أو كما حصل في السويد مؤخراً عندما أعطى البرلمان للحكومة غطاءً قانونياً يجيز (شراء المواطنة)، من المجنسين مقابل تعويض مالي يترتب عليه سحب الجنسية ومغادرة البلاد.
ويرافق كل ذلك تحديات خطيرة في الجانب القيمي والأخلاقي، تتمثل بشيوع (الشذوذ الجنسي)، ومضامين (الجندرة)، وهي حالة مرعبة لأصحاب العوائل العراقية تسببت لهم بقلق وصداع مزمن، علاوة على كونها كابوساً يطارد عموم المجتمعات المسلمة في الآونة الأخيرة، وقد تُفضي لاحقاً إلى خلق قطيعة في التواصل على المستوى الثقافي والإعلامي بين عالم الشمال وعالم الجنوب، أو بين الغرب والشرق.
ومن هنا تبدو دوافع عودة المغتربين للعراق متعددة الأوجه، يشجعهم في ذلك مشاريع التنمية والإعمار الآخذة بالاتساع، والتي تظهر للعيان في العاصمة بغداد، التي تحولت إلى ورشة عمل كبرى، وكذلك كربلاء والنجف والبصرة والكوت، وفي القريب ستظهر في محافظات ذي قار والديوانية .. الخ.
ويبقى عدم وجود إحصاء أو تعداد دقيق لعدد المهاجرين والمغتربين العراقيين في الخارج عامل نقص في سجلات الحكومة، ما يتطلب معالجة إدارية لهذا الموضوع، باعتباره عامل تنظيم لشؤونهم في حال العودة، والتعداد أو الإحصاء بهذا الشأن يرتبط بالموارد البشرية ونوعيتها وتخصصاتها، التي بلا شك ستكون مفيدة لكونها تغذّي البلد بالطاقات المفيدة وذوي الاختصاصات النافعة.
ومع كون الهجرة المعاكسة حالة آخذة بالاتساع، لكن تبقى هناك تحديات أمام العائدين تتعلق بالعمل والسكن والأنظمة التعليمية، وهو ما يؤجل العودة أو يؤخرها نسبياً، بانتظار تسهيلات من نوع خاص ينبغي أن تتبناها الدولة بكافة مؤسساتها.