كتب.. علي المياح
لعل واحدةً من أغرب المفارقات التي نعيشها منذ عام تقريبًا، والتي لا تحدث إلّا في ديمقراطية يصممها السيد بريمر، هي أن الخاسرين في الانتخابات لم يكتفوا بتفريغ معنى الأغلبية وحرمان الفائزين من استحقاقاتهم الطبيعية، بل وصلوا، بفضل هذه الديمقراطية، إلى مراحل من الهيمنة تمكنهم من تشكيل ملامح المرحلة المقبلة أيضًا.
لم يكتف الخاسرون في الانتخابات الأخيرة بحرمان الفائزين من استحقاقهم بل وصلوا إلى مرحلة الهمينة على المرحلة المقبلة
هذا يا سيدي وإن كان كلامًا مكررًا ولكن في تكراره فائدة، إذ لعله يسهم في عرقلة التطبيع مع ما هو شاذ قياسًا بقيم الديمقراطية ومبادئها، وبالتالي عرقلة التأسيس لعرف شاذ آخر في ظل ديمقراطية شاذة قلَّ نظيرها في التاريخ.
من مساوئ الحديث عن هذه المفارقات الغريبة هي الاضطرار، في كل مرةٍ نتحدث فيها عن الحالة العراقية، إلى العودة لسرد بديهيات الأمور وتكرارها مرةً بعد مرة إلى حد التثاؤب من شدة الملل، فهي أشبه بجمع الماء بوعاء مثقوب وتكرار العملية إلى ما لا نهاية.
ولكن، وهذه محنتنا، لا سبيل لفهم ما يجري، من وجهة نظرنا، إلّا عبر الانطلاق من عدة بديهيات: أن هذه العملية السياسية غير محكومة بقواعد الديمقراطية، وأن هذا النظام السياسي لا يعمل في ظل مؤسسات دولة، وأن القوى السياسية لا يربطها عقد سياسي بقدر ما تربطها صفقات مؤقتة، وأن الانتخابات تأخذ ضروريتها، بالنسبة لهذه القوى، فقط لأنها المحدد الوحيد لشكل الصفقات التي ترسم شكل العلاقة بينها بدلًا من الاحتكام إلى السلاح.
من هذه البديهيات التي يفترض أننا متفقون عليها، يتشكل واقع يقول إننا أمام قوتين شيعيتين مسلحتين وصلتا، وفق مخرجات الانتخابات الأخيرة، إلى توتر وتناقض لا يمكن معه منع الصدام. ولأن الصدام في لحظتنا هذه، وفي سياق ظروف إقليمية ودولية متوترة هي الأخرى، فأنه مُكلف للغاية. لذا، ربما سيؤجل الصدام إلى حين. أقول ربما سيؤجل إلى حين، لأن الحالة في العراق غير قابلة للتنبؤ في مجملها، ولكن وفق هذه المعطيات وعلى افتراض أن زعامات هذا النظام لن يحتكموا إلى غير عقولهم، فأنه سيؤجل.
على أية حال، وبناءً على البديهيات والافتراضات السابقة، ستذهب القوى المتصارعة إلى صفقة ما للقفز على لحظة الصِدام التي كنّا أمام "بروڤة" لها في المنطقة الخضراء قبل أسابيع، وسيجري وأد الفتنة ـ كما تحبذ أجهزتهم الدعائية. ومع قليل من التنازلات والضغوطات الخارجية، ستجرى الانتخابات المبكرة وفق شروط مرضية للأطراف المهيمنة، وكفى الله المؤمنين القتال.
ما هو مؤكد في فضاء محكوم بمنطق القوة، بمعناها الضيق، أن القوى الأكثر قوةً هي المستفيدة من أي صفقة مقبلة (من الأكثر قوةً من المسلحين في هذه البلاد؟)، ومن المؤكد أيضًا، أن المسلحين الخاسرين في الانتخابات لا خيار أمامهم إلّا تقويض المنظومة الانتخابية التي تسببت بخسارتهم، أي قانون ومفوضية الانتخابات. أما على الطرف الآخر في هذا الصراع، يسعى الفائزون لتقويض المنظومة التي أفرغت فوزهم من محتواه.
هذا ليس اكتشافًا كبيرًا بل في سياق المسلمات. وعلى هذا الأساس يمكن تصوّر شكل الصفقة: بعض التغييرات على قانون الانتخابات وآليات العد والفرز، مقابل
هذا السيناريو أعلاه، إذا ما حصل، فأنه يفرز سؤالًا بسيطًا لكن أعتقد أنه وجودي بالنسبة للقوى الراغبة بالتغيير أو تلك التي تطرح نفسها بديلًا سياسيًا ـ هناك من يطرح نفسه بديلًا سياسيًا لقوى تستمد شرعيتها من سلاحها. هذه ليست نكتة. هناك من يعمل وفق هذه الرؤية فعلًا! - لكن السؤال هو: على حساب من ستعقد هذه الصفقة؟ من هو المتضرر منها؟ على أي عنصر ستتآمر القوى المهيمنة لتشطبه من المعادلة؟
الجواب بسيط: من جاءت به هذه المنظومة الانتخابية بقانونها ومفوضيتها، سيحذف من المعادلة بقانون ومفوضية جديدة. المستقلون وحدهم من سيخسر. هم العنصر الطارئ. زخمهم الكبير هو ما أحدث الاختلال في عملية مصممة لتسير بتوازنات قائمة على حسابات ذرية.