على أريكته المتواضعة في منزله ذي الجدران الرثّة، يجلس مصطفى العبيدي على مقربة من التلفاز، ينقر على جهاز التحكم بحثاً عن "خبر إيجابي" بين ركام الأزمة السياسية التي عصفت بالعراق، وأنتجت تداعياتها انقساماً مجتمعياً وصل إلى ذروته وقت الصدام المسلح في المنطقة الخضراء وسط العاصمة العراقية بغداد.
العبيدي (43 عاماً) رجل من سكنة منطقة حي أور في بغداد، كان وما يزال أمله الوحيد في الحياة، تحقيق استقرار مادي لأسرته المكونة من أربعة أفراد، بيد أن الاحتدام السياسي انعكس على الواقع الاجتماعي والمالي للمواطن، الذي يرزح تحت وطأة قرارت حكومية أرهقت كاهل العراقيين.
ويُنذر الشلل السياسي القائم بحرمان البلاد من مشاريع بنى تحتية وفرص إصلاح هي بأمس الحاجة إليها، إذ حقق العراق البلد الغني بالنفط والمنهك بعقود من النزاعات، إيرادات نفطية هائلة خلال العام 2022. وتقبع هذه الأموال في البنك المركزي، الذي بلغت احتياطاته من العملة الأجنبية 87 مليار دولار.
وتبقى الاستفادة من هذه الأموال في مشاريع يحتاج إليها العراق مرهونة بتشكيل حكومة ذات صلاحيات كاملة وموازنة تضبط إيقاع الإنفاق، فالحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي تتولى منذ عام تصريف الأعمال ولا تملك صلاحية عرض مشروع الموازنة على البرلمان.
بطبيعة الحال يأمل مصطفى العبيدي كحال العراقيين، بالخروج من عنق زجاجة الأزمة، وتشكيل فريق وزاري قادر على خلق فرص عمل وتعزيز الاقتصاد، لإنهاء حالة الركود التي تضرب الأسواق منذ الإعلان عن قرار خفض قيمة الدينار أمام الدولار.
وأجرى "ميل" جردة حساب للأحداث منذ إجراء الانتخابات وحتى اجتياز مرحلة الصدام. ففي 10 تشرين الأول 2021 أجرى العراقيون أول انتخابات مبكرة بعد العام 2003، خُصص لها 327 مليار دينار في قانون دعم انتخابات مجالس النواب.
وتولت الأمم المتحدة الإشراف على الانتخابات بقيادة جينين بلاسخارت، وشارك في الإشراف كذلك قرابة 300 مراقب دولي وأممي. كما تمت مشاركة 380 ألف وكيل كيان سياسي ومراقب محلي. ونُظمت الانتخابات في 57834 الف محطة انتخابية و 8954 الف مركز انتخابي.
وفي 11 تشرين الأول، أعلنت مفوضية الانتخابات النتائج الأولية لعشرة محافظات.
وفي 12 تشرين الأول، قدم تحالف الفتح أول طعن بالنتائج المعلنة ووصف نتائجها بالمفبركة، فيما دعا الإطار التنسيقي في 16 تشرين الأول، مفوضية الانتخابات الى تصحيح اخطاء الفرز و العد لنتائج الاقتراع.
وواصلت المفوضية في 22 تشرين الأول، عد وفرز المحطات المطعون بصحة نتائجها من قبل الكتل المعترضة، وأعادت في 26 تشرين الأول فرز 297 محطة انتخابية جديدة يدوياً.
وفي 27 – 28 تشرين الأول، ردت مفوضية الانتخابات 461 طعنا بنتائج الانتخابات، لكنها أُلزمت لاحقاً بإعادة الفرز اليدوي لـ21 محطة جديدة.
وفي مطلع تشرين الثاني، اعتصام لجماهير الإطار التنسيقي على مقتربات المنطقة الخضراء رفضاً لنتائج الانتخابات، ومن ثم وسّع المتظاهرون احتجاجاتهم ونقلوها لبوابة الخضراء المجاورة لوزارة التخطيط.
وطول شهر تشرين الثاني واصلت جماهير الاطار التنسيقي اعتصامها مطالبة بالغاء نتائج الانتخابات وتعديل قانونها، إلا أن رئيس مجلس المفوضين القاضي جليل عدنان أعلن في 30 تشرين الثاني النتائج النهائية للانتخابات العراقية المبكرة.
وفي بوادر لحلحلة الأزمة السياسية، اجتمع قادة الإطار التنسيقي في الثاني من كانون الأول مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بمنزل رئيس تحالف الفتح هادي العامري لبحث مرحلة ما بعد الانتخابات.
وطيلة الفترة التي تلت إعلان نتائج الانتخابات ظلّت المحكمة الاتحادية، تؤجل النظر بدعوى الطعن، حتى حسمت قرارها في 26 كانون الأول، عندما رفضت الدعوى، ليتجه بعد ذلك مجلس النواب إلى عقد أولى جلساته برئاسة رئيس السن محمود المشهداني في التاسع من كانون الثاني 2022، وهي الجلسة التي اختير فيها محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان وحاكم الزاملي نائباً أولاً وشاخوان عبد الله نائباً ثانياً، في ظل انسحاب نواب الاطار التنسيقي بعد نقل رئيس السن الى المستشفى.
وظلت الأزمة السياسية منذ ذلك الحين تتفاقم شيئاً فشيئاً، ولم تصل الحوارات إلى مخرج يُرضي جميع الأطراف، حتى جاء قرار المحكمة الذي اشترط أغلبية الثلثين (220 نائباً) في تمرير رئيس الجمهورية، وقرارها الآخر بإيقاف ترشيح هوشيار زيباري للرئاسة، وهو أمر تسبب لاحقاً بإخفاق التحالف الثلاثي بعقد جلسة نيابية لتمرير مرشحه للرئاسة ريبر أحمد، وهو ما أوقف عجلة اختيار جعفر الصدر رئيساً للحكومة، بفعل الثلث "المعطّل" كما يُسميه الصدر وحلفاؤه، أو "الضامن" كما يُطلق عليه الإطار التنسيقي وحلفاؤه.
واستمر الانغلاق السياسي على الرغم من المبادرات العديدة التي قدمت، إلا أن أياً منها لم يفلح بترطيب الأجواء بين الخصوم، وهو أمر دفع نواب الكتلة الصدرية في نهاية المطاف إلى إعلان استقالتهم التي قبلها الحلبوسي في الثالث عشر من حزيران الماضي.
وانسحب الصدر في الخامس عشر من حزيران من العملية السياسية وأعلن عزمه عدم المشاركة بأي انتخابات جديدة، ليأخذ بعد ذلك الإطار التنسيقي زمام المبادرة ويُعلن رسمياً في الخامس والعشرين من تموز ترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة.
كل ذلك دفع المشهد نحو الاحتدام بصورة أكبر، عندما اقتحمت جماهير التيار الصدري مبنى مجلس النواب في 27 تموز لساعات معدودة ومن ثم انسحبت، لكنها عادت في 30 تموز لتكرر اقتحام البرلمان وأعلنت فيه اعتصاماً مفتوحاً، وهو ما تسبب بتعليق عمل مجلس النواب في 30 تموز إلى إشعار آخر بسبب الاقتحام.
الانقسام السياسي ولّد تعدداً في الساحات الاحتجاجية، حيث نظمت جماهير الإطار التنسيقي في 12 آب اعتصاماً قالت إنه يأتي "دعماً لشرعية الدولة".
وتفاقم وضع الشارع عندما قرر التيار الصدري في 23 آب، الاعتصام أمام مبنى مجلس القضاء ومحاولة اقتحامه، ليرد رئيس المجلس فائق زيدان على ذلك، بتعليق عمل المحاكم لغاية انسحاب المعتصمين.
وفي تطور لافت للمشهد قرر المرجع الديني السيد كاظم الحائري في 29 آب، اعتزال العمل الحوزوي ودعوة التيار الصدري إلى اتباع المرشد الإيراني الأعلى السيد علي خامنئي، وهو أمر سبب تصدعاً على ما يبدو داخل التيار الصدري، الذي قرر زعيمه مقتدى الصدر في اليوم ذاته اعتزال العمل السياسي وغلق المنصات الإعلامية التابعة له، فضلاً عن تعليق عمل اللجنة المركزية المنظمة لاحتجاجات التيار.
إلا أن ذلك كان بمثابة صافرة الانطلاق للمحتجين الذين كانوا يرابطون عند مبنى البرلمان، للانطلاق نحو القصر الحكومي واقتحامه، وهو ما مهّد إلى ليلة 30 آب (ليلة الهرير) التي شهدت اشتباكات مسلحة في المنطقة الخضراء ومحاولات اقتحامها بالسلاح.
وفي صبيحة 30 آب، انهى الصدر اعتصام التيار وأمر انصاره بالانسحاب من الخضراء، بعد ساعات طويلة من الاشتباكات، تسببت بهلع العراقيين وإثارة ذعر المواطنين الذين تخيّل معظمهم بأن الدولة أوشكت على الانهيار.
وفي 10 ايلول قررت القوى السياسية اللجوء إلى "تهدئة مؤقتة" بسبب الزيارة الأربعينية، صام فيها الفرقاء عن التصعيد السياسي.
وبمجرد انتهاء الزيارة دشّنت القوى السياسية مفاوضاتها مجدداً، لتعلن في 26 أيلول – الاعلان رسمياً عن تشكيل ائتلاف إدارة الدولة الذي يشمل القوى السياسية كافّة باستثناء التيار الصدري.
وفي 28 ايلول استأنف مجلس النواب عمله بعد تعطيل استمر لأكثر من 40 يوماً، في الجلسة التي رفض فيها البرلمان استقالة الحلبوسي، فيما انتخب محسن المندلاوي نائباً أولاً له.
ويُكمل العراق اليوم، عامًا زاخرًا بالأحداث، على وقع أطول أزمة سياسية عصفت بالبلاد منذ عام 2003، وتداعياتها التي مازالت آثرها ممتدّة حتى الآن.
وتشي مصادر سياسية واسعة الإطلاع، بأن ائتلاف إدارة الدولة أمهل الحزبين الكرديين حتى نهاية الأسبوع الحالي، لإنهاء عقدة اختيار مرشح رئاسة الجمهورية، الذي يقوم بدوره بتكليف المرشح لرئاسة الحكومة، لغرض "الإبحار بسفينة إدارة الدولة".