المشهد الكردستاني شتاء 2023... من بناء الدولة الى انتظار القضاء والقدر

المشهد الكردستاني شتاء 2023... من بناء الدولة الى انتظار القضاء والقدر

+A -A
  • 6-03-2023, 19:08
  • 293 مشاهدة
  • اراء ومقابلات

كتب .. سامان نوح 

في عاصمتي اقليم كردستان، حيث لا تكاد تنقطع جولات الاجتماعات السياسية التي تحمل عناوين "التقدم والتطور والفرص" في كل الميادين، وحيث يتعالى صخب المؤتمرات والمهرجانات وتتوالى بيانات الاصلاح وترسيخ المؤسسات ودعم الحريات، تتهادى أيضا صور البرلمان المشلول والانتخابات المؤجلة والمؤسسات الغارقة في سطوة القرارات الحزبية، والسياسيين المتصارعين خارج قواعد اللعبة، والنشطاء القلقين من تراجع الحريات، والكسبة والموظفين اليائسين من استعادة سنوات الرفاه المفقودة.
تمر جموع العائدين من الجبل الى المدينة سريعا، متخطية عربات بائعي الشاي والمشروبات الساخنة، متجهة الى شارع سالم قلب المدينة النابض ليلا بمطاعمه ومقاهيه وعرباته المتلاصقة التي تصطف طويلا لتقديم مختلف المأكولات وسط درجات حرارة تقارب الصفر، هناك كان أحمد بائع "حب الشمس" منهمكا بتدفئة قدميه بنار صغيرة اشعلها في كومة خشب وسط اسطوانة حديدية متآكلة. قال "الغاز غالي جدا لا يمكن ان ابقي شعلة تسخين الجرزات متقدة.. لا يمكنني استخدامها لتدفئة يدي!".
على مسافة قريبة من ذات الموقع، ومع نسمات الفجر الأولى تصطف عشرات من اسطوانات الغاز في خط طويل، بانتظار عربات وكلاء شركات التجهيز. بعد ساعات من الانتظار يخيب أمل "داية خديجة" التي قاربت السبعين من عمرها في الحصول على اسطوانة، لتعود أدراجها الى منزل ابنها على أمل ان تظفر في فجر اليوم التالي "لا يمكنني شراء قنينة بـ18 الف، هذا مبلغ فوق طاقتنا". يتكرر ذات المشهد بين فترة واخرى وفي مختلف فصول العام، في الاقليم الذي يصدر 450 الف برميل من النفط ويخطط لتصدير الغاز الى اوربا، كما يقول قادته.
شمالا في اربيل العاصمة السياسية، كان "شوان" منهمكا في تشغيل مولد الكهرباء الخاص بمطعمه الصغير بعد تعطل مفاجئ في الخط المغذي لمحله، قال بشيء من الغضب وهو يبتسم "ثلاثون عاما ومازلنا نعتمد على المولدات، قبل 13 عاما كانت اوضاع الكهرباء افضل، وكانوا يعدوننا بـ24 ساعة تزويد دون انقطاع".


في أشهر الشتاء والصيف تنقطع الكهرباء في اربيل كما باقي مناطق الاقليم لنحو 12 ساعة يوميا. تعوَدَ الناس على ذلك رغم ان فاتورة الكهرباء تتجاوز في المتوسط الـ 100 دولار شهريا، ويعاني عشرات آلآف العوائل لتأمين المياه الساخنة طوال اشهر الشتاء، فـ 30 امبير من الكهرباء الوطنية التي تزود بها المنازل لا تكفي لتشغيل سخانات المياه مع المكيفات، عليك ان تختار احداها.
يقول الموظف المتقاعد "دلاور": "بالكاد نتدبر امورنا، نحو نصف راتبي يذهب لتأمين الكهرباء والنفط الابيض، أذكر حين وقعوا عقود شركات النفط الاستثمارية قالوا لنا بأن حصة من أموال النفط ستوضع لنا في حسابات بنكية.. لم نر غير دخان النفط وأمراضه السرطانية".
على مسافة قريبة من مركز المدينة الذي تتزاحم فيه الأبراج التجارية والسكنية التي تناطح عنان السماء، لا تغيب مشاهد صفوف اسطوانات الغاز التي ينتظر أصحابها رحمة شركات التوزيع، بينما يتقاطر مواطنون على محطات تعبئة الوقود وهم يحملون جلكانات صغيرة للتزود بالنفط الابيض الذي يتجاوز سعر اللتر الواحد 1100 دينار.


أمام احدى المحطات، يحسب "هيوا" كمية النفط الابيض التي يمكنه شراؤها بما لديه من مال. يقول بينما يخرج من صندوق سيارته جلكانا سعة 40 لتر "لا يمكنني شراء كمية اكبر. الحكومة لا توزعه علينا، لا أكاد أذكر متى كانت آخر سنة حصلت فيها على النفط الأبيض".
يتابع المدرس الثانوي كلامه بغضب:"هناك شحة متكررة في الغاز، وارتفاع في اسعار الوقود، أنظر البنزين المحسن بـ 1150 دينار، انها مصيبة .. لا نعرف هل نحن نبيع النفط ام نشتريه؟".
بحسب تقارير صحفية، أكثر من 70% من اهالي الاقليم لم يحصلوا على النفط الأبيض الى الآن، فقد اكتفت الحكومة بتوزيع برميل واحد في المناطق الجبلية بمبلغ 103 الف دينار، فيما أعلنت وزارة الموارد الطبيعية في بداية شباط فبراير عن توزيع كميات محدودة (60 صهريج) وصلت بشكل عاجل من بغداد، على العوائل الأكثر فقرا وبواقع 100 لتر للعائلة.

أزمات وذكريات سنوات الرخاء
في وسط اربيل الذي تحاكي بعض محالها التجارية، أسواق المدن الصناعية الكبرى بما تقدمه من أرقى ماركات الملابس والعطور والأحذية والحقائب النسائية، تقف معلمة الابتدائية "خديجة" حائرة أمام محل لبيع الملابس المستعملة، عليها ان تشتري معطفين لإبنتيها "الرواتب تتأخر، ولا خيار آخر لدي، هناك سنويا راتب مفقود أو متأخر تعودنا ذلك".
بعد سنوات الرخاء الممتدة بين الأعوام 2007 و2013 ومع تراجع اسعار النفط ومن ثم هجوم تنظيم داعش ولاحقا تأثيرات فايروس كورونا وما خلقته من أزمات اقتصادية، بات غالبية سكان اقليم كردستان يواجهون ظروفا اقتصادية صعبة، خاصة مع تعثر دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين في مواعيدها. يقدر متابعون حجم المستحقات المتأخرة عن الرواتب غير المدفوعة في السنوات السابقة بأكثر من 10 مليارات دولار.
عوامل أخرى ساهمت في تفاقم الازمة الاقتصادية، على رأسها الفساد وسوء الادارة والترهل الوظيفي، وهي تحديات تقر بوجودها السلطات مرارا وتكرارا، وقد اعلنت عن ثلاث حملات اصلاحية خلال عقد واحد من الزمن، يبدو انها لم تحقق أهدافها، في ظل جهاز وظيفي غير انتاجي يضم اكثر من مليون و250 الف موظف ومتقاعد، ومع آلاف من أصحاب الدرجات الخاصة الذين عينتهم الاحزاب الحاكمة، بعضهم يتلقى راتبا دون اي خدمة وظيفية فعلية.

يواجه الموظفون في كردستان الذين يشكلون الشريحة المجتمعية الأكبر، تراجعا في قدرتهم الشرائية، يفرضه ارتفاع اسعار مختلف السلع مع ثبات رواتبهم التي هي في الغالب أدنى من رواتب نظرائهم في بغداد واحيانا لا تصل الى نصفها، كما ان ترفيعاتهم الوظيفية متوقفة منذ سنوات الحرب ضد داعش.
في المناطق التي تتبع السليمانية، تبدو الأزمة أكثر عمقا، ففي كرميان ترتفع معدلات البطالة وتظهر في كل ركن مظاهر الفقر وضعف الخدمات. ذلك الواقع هو ما دفع المئات من سكان دربنديخان الى التظاهر مطلع شباط فبراير قبل ان يحولوا احتجاجهم بعد اسابيع من عدم استجابة السلطات للمطالب المرفوعة الى اعتصام في ساحة عامة.

السكان يطالبون بتطوير الطرق الخارجية المتهالكة في المنطقة والتي تعرف بطرق الموت، وتوفير المياه الصالحة للشرب وتأمين ساعات اضافية من الكهرباء وتحسين الخدمات الصحية.
بعد 30 عاما من الحكم الكردي المطلق لا يوجد شارع بمعبرين يربط أكبر مدينتين في الاقليم. على المسافر ان يعبر ممرات جبلية خطرة. يقول "تحسين" وهو سائق تاكسي خبر أهوال الطرق خاصة في أشهر الشتاء، بينما أشار الى نقطة تفتيش للحزب الديمقراطي طلبت هويات المسافرين للتدقيق الأمني، بعد بضع كيلومترات من أخرى للاتحاد الوطني "انهم يريدون ابقاء الاقليم مقسما".
تبدو مطالب سكان دربنديخان، احلاما بعيدة التحقق في غالبية "المدن المنسية" بكردستان في ظل صراع الحزبين الحاكمين على الموارد والسلطة والسيطرة على مفاصل الادارة، ومع اندثار المؤسسات الجامعة وشلل البرلمان العاجز عن المراقبة والمحاسبة أو اقرار الموازنة المالية للاقليم، وفي ظل غياب الادارة الموحدة للملفات الأمنية والاقتصادية والخدمية.
ذلك الصراع متعدد الأوجه والمستويات بين الحزبين الحاكمين كل في منطقته، والذي أدى بحكم الامر الواقع، الى تأجيل الانتخابات البرلمانية التي كانت مقررة في تشرين الاول 2022 في خرق متكرر للقواعد الديمقراطية وفي ظل تفكيك قوة الاحزاب المعارضة وتدمير مقومات المجتمع المدني والصحافة الحرة، ومع تحزيب مفاصل السلطة والقرار.
تعطل التجربة الديمقراطية، وتهشم قواعد الحريات المدنية، وضع الحزبين الحاكمين (الديمقراطي الكردستاني في اربيل ودهوك، والاتحاد الوطني في السليمانية وحلبجة) أمام سيل من الانتقادات الغربية. لكن على طريق تعزيز السلطة الحزبية والشخصية لم يعد الحزبان يقيمان وزنا لتلك التحذيرات، ويرددان معا "الغربيون ملزمون بالتعاطي مع الأمر الواقع".
ذلك ما يفسر إدامة صراع الحزبين، حتى مع ضغوط البعثات الدولية وجهود السفراء الغربيين، ونصائح ممثلة الأمم المتحدة، سواء ما ارتبط بضرورة اجراء الانتخابات ووقف تضييق الحريات او تجاوز حالة الانقسام الاداري الامني العسكري.

نهاية التحالف الكردستاني
انقسام غير مسبوق منذ تسعينات القرن الماضي، يترجم حكوميا بغياب نائب رئيس الحكومة قوباد طالباني وغالبية وزراء الاتحاد الوطني عن اجتماعات الحكومة منذ أشهر، ويترجم تشريعيا بشلل كامل للبرلمان، وقضائيا بقرارات متقاطعة من محاكم اربيل والسليمانية، في ظل تبادل لا ينقطع للاتهامات بشأن المسؤولية عما يحصل.
ويمتد الانقسام الكردي الى ساحة العمل في بغداد، فلم يعد التحالف الكردستاني الجامع للاحزاب الكردية قائما منذ سنوات، ولا وجود للتنسيق بين الحزبين الحاكمين، وممثلية اقليم كردستان في بغداد تمثل جهة سياسية واحدة وتعاني من ضعف مزمن. ويتحرك كل حزب كردي بمفرده في اطار حفظ امتيازاته. وتخلو الوفود التي ترسلها حكومة اقليم كردستان (التي يقودها الديمقراطي الكردستاني) الى بغداد لمناقشة الملفات الخلافية من ممثلين للاتحاد الوطني كما بقية القوى الكردية.
لم تعد هناك استراتيجية سياسية كردية جامعة، حتى في الملفات المهمة لمستقبل اقليم كردستان. يقول قادة الاتحاد الوطني انهم لا يعلمون شيئا عن مسار مباحثات الحكومتين بشأن قانون النفط والغاز والمادة 140 كما قانون الموازنة وبقية الملفات المهمة.

صراعات حزبية تراكم أزمات، ما يحول دون تفجرها، هو سلسلة "المصالح المشتركة" للحزبين التي تفرض عليهما عدم التصعيد في ظل مغريات عائدات النفط المرتفعة على خلفية ازمة الطاقة العالمية، والتي تسمح بتوزيع رواتب الموظفين -رغم توقف التعيينات والترفيعات منذ سنوات- وادامة بعض الخدمات.
لكن ماذا لو تراجعت أسعار النفط الى النصف من أسعارها الحالية، وهو احتمال قوي سيضع الاقليم في قلب أزمة مالية كبرى، مع حقيقة ذهاب نحو نصف عائدات النفط المباع الى حساب الشركات الاستثمارية

ارقام النفط الصادمة
وفق أرقام شركة "ديلويت" الدولية التي تقوم بتدقيق حسابات نفط كردستان، باع الاقليم في النصف الثاني من العام 2022، نحو 390 الف برميل يوميا عبر الانبوب النفطي، الى جانب بيع نحو 34 الف برميل للمصافي النفطية الداخلية. كمعدل عام، بلغ سعر بيع برميل النفط الواحد عبر الانبوب 83 دۆلار للنصف الثاني من العام، اي باقل من سعر نفط برنت بنحو 18 دولارا .

وبلغت تكلفة الانتاج والبيع في النصف الثاني من العام الماضي 50%. ومن مجموع 5 مليار و569 مليون دولار، تحققت كعائدات، استلمت حكومة الاقليم 2 مليار و793 مليون دولار فقط، اي ان نصف العائدات ذهبت الى جيوب الشركات. وبلغ صافي العائدات في العام الماضي 5 مليار و709 مليون دولار، من اجمالي العوائد المتحققة (من التصدير للخارج والبيع في الداخل) والبالغة 12 مليار و422 مليون دولار.

تلك الأرقام الاقتصادية المخيبة للآمال بشأن المصدر الأول لعائدات الاقليم وبالتالي لدخل مواطنيه، مضافة الى الخيبات القومية التي فرضتها سياسات اعلاء المصالح الحزبية على أسس المواطنة والعدالة والمساواة، هو ما ينعكس مباشرة على حجم تأييد الشارع الكردي للاحزاب الحاكمة، والذي كشفت نتائج آخر انتخابات تراجعه الى حدوده الأدنى منذ ولادة الاقليم في 1991 . فحجم المقاطعة الشعبية بلغ نحو 65% من الناخبين، ولم يحصل الحزبان مجتمعين على أكثر من 23% من أصوات الناخبين.
الصراعات بين الحزبين الحاكمين في الاقليم، والتي أدت خلال 15 سنة الأخيرة الى الغاء دور المؤسسات الحكومية لصالح المراكز والأقطاب الحزبية، وإضعاف المجتمع المدني لصالح المنظمات الحزبية، وتفتيت الصحافة الحرة لصالح سيادة الصحافة الحزبية، وانهاء الديمقراطية الحقيقية لصالح سياق انتخابي متعثر بصناديق تحوم حول أدواتها وآلياتها وخلفياتها الشكوك، وتحويل النقابات والاتحادات الى تشكيلات وهياكل خاضعة للأحزاب، وانهاء الفصل بين السلطات ومن ثم تفريغها من محتواها، وانهاء السوق الحر لصالح الاحتكار الحزبي والشخصي.

ولعل نتائج استطلاع الرأي الذي انجزته شركة "شيكار" للأبحاث واستطلاعات الرأي، وهي شركة أسسها في 2010 مجموعة من اساتذة الجامعات والباحثين ومقرها في اربيل، والتي أظهرت ان نحو 50% من المشاركين (غالبيتهم من الموظفين) مع عودة الاقليم الى بغداد وانهاء كيان اقليم كردستان، يمثل ناقوس خطر يجب عدم اغافله

ذلك الاستطلاع، وان اعتبره سياسيون وباحثون، مجرد ردة فعل على أزمات الاقليم الاقتصادية خاصة في مناطق ادارة السليمانية، فانه يعبر بشكل ما عن حجم تراجع التأييد لسياسات الاحزاب الحاكمة في كردستان، وعن عمق ازمات الاقليم "الاجتماعية والثقافية" فضلا عن الادارية والسياسية، التي أربكت الرؤية الثقافية القومية التي تربى عليها أجيال من الكرد، الرؤية التي تفرض ان يدافع الكردي عن كيانه بغض النظر عن أخطاء السياسيين وفشلهم في بناء اقليم موحد قوي، ديمقراطي مؤسساتي يرسخ القانون والمساواة والعدالة، اقليم يخدم مطامح أمة وليس أحزاب وشركات.
يتحدث رئيس الاتحاد الوطني بافل طالباني، بكل وضوح عن أزمات الاقليم المستفحلة "نتراجع الى الوراء في كل شيء .... وضعنا سيء، ووضع شعبنا سيء جدا".وعن الوساطات الخارجية يشير الى انزعاج الأمريكيين من استمرار الخلافات الكردية، ناقلا عنهم قولهم "منذ ثلاثين عاما ونحن ندعمكم لقد مللنا خلافاتكم".
خلال السنوات الأخيرة من العقود الثلاثة لولادة اقليم كردستان، تراجع الدور السياسي الكردي في العراق، من صانع ملوك وشريك أساسي في القرار الى مجرد مشارك وباحث عن امتيازات مالية، بينما ينهال اللاعب الاقليم ضربا بالكيان الكردي الدستوري عبر عمليات عسكرية على طول الحدود وتدخلات مختلفة، فيما يكاد تغيب الشعارات القومية ويتبدد حلم الدولة على أرض الاقليم المقسم الى ادارتين او حتى اقليمين.
مع واقع إندثار تأثير الاحزاب المعارضة في ظل موت المنافسة السياسية، وتلاشي حضور الاعلام الحر والمجتمع المدني، وغياب المؤسسات الجامعة، والموت السريري للبرلمان، ووصول الأحزاب الحاكمة الى مرحلة اللا اصلاح. ليس غريبا أن يسلم الناس أنفسهم كما يقولون "للقضاء والقدر"، فلا أمل لهم بوجود درب يضفي لخلاص!