الريادة: معناها ودواعي إثباتها

الريادة: معناها ودواعي إثباتها

+A -A
  • 12-04-2023, 19:40
  • 129 مشاهدة
  • اراء ومقابلات


كتبت.. د. نادية هناوي
مما تتفق عليه أدبيات النقد ومناهجه أن مسألة الريادة بالعموم ليست متروكة على الغارب؛ بل لها محددات فنية وموضوعية، عليها يعتمد الوسم بالريادة إزاء أي إنتاج إنساني أدبيا كان أو غير أدبي. ومن تلك المحددات توفر الإرهاص بالكتابة على نية الابتكار الذي يجعل القصدية متحققة باتجاه تجريب طريق بكر لم يسبق لأحد قديم أو حديث أن انتهجه أو اهتدى إليه.
ومن المحددات المداومة التي تجعل قصدية الانتهاج لذلك الطريق مستمرة وبفاعلية كتابية لا توان فيها ولا انقطاع. ومنها أيضا الإشهار التأسيسي الذي فيه يعلن المنتهج عن خط خاص وجديد ابتكره مبشرا به وداعيا إليه في ميدان من الميادين، ومن ثم لا يكون التمنهج الإبداعي خاصا بالشخص الذي ابتكره وإنما يعمم ليكون متاحا أمام من يريد انتهاج هذا الطريق وكلما كثر السائرون عليه توطدت الريادة وتأكدت لذلك الذي له السبق في الابتكار والانتهاج. ومن محددات الريادة التأصيل الذي به نستدل على قدرة المبتكر وأصالته متحولا بالذي ابتكره من كونه حديثا إلى أن يكون تقليدا أدبيا معتادا وراسخا يسير عليه الآخرون، مبتغين إتقان أساليبه عارفين مسالكه ومنعطفاته وموسعين آفاق الكتابة فيه تفريعاً وتنويعاً ليكون في المحصلة النهائية ظاهرة أدبية واضحة وشاملة.
ولا مجال لتحصيل الريادة من دون توفر حاضن ثقافي ضمن مناخ إبداعي ملائم يساعد في بناء أرضية، عليها تختمر عملية التجريب إلى أن تترسخ أساسات التجذر كتقليد. ويظل الإبداع تجربة عابرة وطارئة غير موصوفة بالريادة ولا مؤصلة بشكل أدبي ليس له سابق أو نظير من دون توفير ذلك الحاضن. وما كان لكثير من التجديدات الأدبية أن تكون لها الريادة كمكانة وانتهاجلأشكال أو تكنيكات أو أنواع أو حتى أجناس لولا القصدية والمداومة والإشهار الذي به يتحقق الإقرار والتأصيل ويغدو الجديد معترفا به وخاضعا للنظر النقدي والتقييم الأدبي.
وقد تتبلور حول الريادة تصورات ومن هذه التصورات تتشكل نظريات. ولا نظرية من دون أن تكون المادة التطبيقية المنظر لها مؤصلة وحقيقية وموطدة بريادة تجعلها مستقلة فلا تتشابه مع أي نمط من الأنماط أو شكل من الأشكال.
ومن هنا نفهم السبب الذي يجعل البحث عن الريادات وتشخيص فواعلها من اختصاص مؤرخي الآداب وليس من ضمن أولويات المنظرين الأدبيين، لأن النصوص التي تتناولها النظرية فحصا وتحليلا وتخضعها للنظر النقدي من أجل استخلاص القوانين وتحديد الأنظمة وصياغة المصطلحات هي في الأساس كتابات كانت قد وطدت جذورها في عالم الأدب والنقد، ممتلكة الهوية وممنهجة التكون في واحدة من صورتين: صورتها كنصوص جديدة مبتكرة توفرت فيها مقومات التأصيل والريادة أو صورتها كنصوص مفروغ من رياديتها مقولبة ومصنفة في خانة من خانات التقليد والإتباع.
وقد تغيب هذه الخصوصية عن الأذهان حين تحشر أنماط أو أشكال من الكتابة لم تتوفر فيها شروط التأصيل ولا الإتباع داخل النظرية الأدبية، في محاولة واهية وموهومة للظفر بقوانين تجعل منها أنواعا أو أجناسا شعرية وسردية، من دون إدراك أصالتها وظنا بأن التجريب وحده كاف لتوصيف النصوص المبتكرة بالريادة ومن ثم يكون منطقيا إخضاع النظرية الأدبية لها والتماشي معها بحثا عن قوانين وأنظمة واشتغالات.
إن أهمية إثبات الريادة لأي ابتكار من الابتكارات الكتابية هو خطوة أولى تلحقها خطوة التنظير الأدبي لهذا الابتكار كفن أو جنس أو تقنين أو اصطلاح. وبالشكل الذي يمكِّن من إدخاله في الخانة التي تلائم عناصره وتتفق مع سماته ووظائفه.
ولطالما كان الغرب سباقا في الريادات النقدية سواء على مستوى الفنون المستجدة والأجناس المستحدثة والمذاهب المتنوعة أو على مستوى تدشين النظريات والاصطلاحات والمنهجيات. أما على مستوى الريادات الإبداعية وتحديد الأسماء التي لها الأحقية في الريادة استحداثا وتدشينا؛ فذلك يظل رهناً بأدب كل أمة من الأمم الإنسانية وبحسب اللغة التي يكتب بها ذلك الأدب.
وعربيا اهتم المشتغلون في حقل التاريخ الأدبي ـ عربا كانوا أو مستعربين ـ بالبحث عن الريادة ضمن خارطة أدبية لا تتعدى حدودها في الأغلب المشرق العربي، فنادرا ما التفت أولئك المؤرخون إلى أدب المغرب العربي بحثا عن الريادة. أما لأن بعضا من نصوصه التأسيسية الحديثة كتبت باللغة الفرنسية أو لصعوبة الإلمام بما نشر منها في تلك البلاد لبعدها وضعف التواصل الأدبي بين مشرق الوطن العربي ومغربه أيضا.
وكان من تبعات هذه الحال أن صارت الريادة لصقا بالأدباء المشارقة بعامة والأدباء المصريين بخاصة لأسباب كثيرة نختزلها في أمرين مهمين: الأول المركزية الثقافية التي تحققت لمصر قبيل القرن الثامن عشر من خلال ما جلبه المستعمرون الفرنسيون إليها من وسائل الطباعة التي ساهمت في نشاط حركة التأليف والترجمة فاتسع نطاق التسويق للثقافة المصرية كتبا وصحفا ومجلات وبمرور الزمن صارت مصر مركزا للثقافة الأدبية العربية. والأمر الثاني هي الحروب الأهلية في لبنان والثورات التحررية التي سادت بلاد الشام وجعلت مصر قبلة الأدباء السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، فيها يألفون وينشرون بحرية وأمان، حتى صارت نتاجات بعض الأدباء الشوام تحسب على أنها مصرية.
الأمر الذي أدى إلى تغييب إبداعات أدباء رواد، تناساهم مؤرخو الأدب المصري ونقاده الذين انحازوا لوطنيتهم فقصروا الريادة في كتابة القصة الطويلة والقصيرة والرواية القصيرة والرواية والمقالة وكذلك الكتابة النقدية المنهجية وغير المنهجية على الأسماء المصرية في الأغلب. ومما عزز القول بتلك الريادات هو اتباعية بعض النقاد العرب لهم أيضا. وللإنصاف نقول إن في تاريخ الأدب العربي ريادات مصرية كريادة الشعر المسرحي على يد أحمد شوقي وريادة الرواية الواقعية والرمزية على يد نجيب محفوظ ولكن هناك أيضا مغالاة في إلصاق هذه الريادة بالمصريين بينما هناك كاتب عربي أو كاتبة عربية توفرت فيه أو فيها محددات الريادة في كتابة لون أدبي معين، لا في السبق فقط وإنما في النضج أيضا.
ولقد استقرت الآراء حول ( زينب) لمحمد حسين هيكل كأول رواية، ولم يشكك الدرس النقدي العربي في أحقيتها الأدبية والتاريخية سوى أسئلة أثارها بين الفينة والأخرى أكثر من باحث لكنها لم تنفع في زحزحة ما استقر من رأي حول ريادة الرواية العربية ومن ثم ظلت عملية استعادتها إلى المؤصل الأول لها ضربا من المحال.
ولا بد لأي مشكك في ريادة أي عمل من الأعمال الإبداعية أن يكون على بينة من تاريخ الأدب الذي فيه يبحث عن تلك الريادة عارفا ما كُتب ونُشر في البلدان العربية في إثناء المرحلة التي نشرت فيها( زينب) وقبلها. ولا مناص له أيضا من أن تكون مقومات الريادة نصب عينه وهو يخضع لها الأعمال التي ينوي المقايسة فيما بينها بحثا عن الحقيقة الأدبية. وقبل هذا وذاك أن يكون موضوعيا لا تأخذه حمية وطنية ولا يحرفه انحياز عاطفي أو تجن قرائي ولا يتسرب إليه تعصب جنوسي (جندري).
وإذا افترضنا أن الأجواء التي ساعدت في الريادة كانت قد توفرت في مصر وحدها دون لبنان والعراق وسوريا وفلسطين، فلماذا لم تدفع الأدباء العرب الذين عاشوا في هذا البلد نحو أن يكونوا روادا أيضا؟ وماذا عن أدباء عرب كتبوا نتاجات سردية طويلة وقصيرة في بلدانهم التي لم يكن فيها ما كان في مصر من إمكانيات الطبع والنشر والتسويق فظلت نتاجاتهم بعيدة عن أنظار مؤرخي الأدب متدارية في حدود البلد الذي نشرت فيه ومن ذلك مثلا عطاء أمين الذي نشر في العراق أول قصة قصيرة عام 1910 وميخائيل نعيمة عام 1914 وسليمان فيضي الذي نشر ( الرواية الايقاظية) عام 1919 وعبد الملك نوري الذي يعد أول من وظف تكنيك تيار الوعي في القصةعام 1948 وغسان كنفاني أول من وظفه في الرواية.ثم أين المرأة الكاتبة من الريادات الأديبة شعرا وسردا ومسرحا؟ أليس لها الحق في أن تكون رائدة أم أن الريادة هي حكر على الرجال الأدباء؟ أليس هذا هو ما يعتقده كثير من مؤرخي الأدب العربي وإلا لماذا غابت الريادة النسوية بالمرة من كل حقول أدبنا ونقدنا؟ هذه التساؤلات سنجد الإجابات عنها ونحن ندقق في التاريخ الأدبي أولا ثم نوظف النقد الأدبي بمناهجه ونظرياته آخرا.