بغداد- ميل
كتب.. اشرف كريم
العراق.. بلد يطفو على بحر من الغاز لكنه يستورده، يشعل محطاته بوقود غيره بينما يحرق ثروته في الهواء. لعقود، ظل ملف الطاقة معلقًا بين خطط غير مكتملة واعتماد شبه كلي على الإمدادات الخارجية، حيث باتت الكهرباء رهينة للغاز المستورد، وأي تأخير في الدفع أو تعقيد سياسي يتحول فورًا إلى ساعات إضافية من الإطفاء. لكن العراق، الذي اعتاد السير على حافة الأزمات، يبدو اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى كسر هذه الحلقة، مع توجه حكومي حاسم لاستثمار الغاز المصاحب، ما يعني أنه خلال خمس سنوات فقط، قد يحقق الاكتفاء الذاتي، وينهي اعتماده على الاستيراد نهائيًا.
اليوم، يستورد العراق نحو 40 مليون متر مكعب يوميًا من الغاز الإيراني، وهو ما يمثل 40% من احتياجاته لتشغيل محطاته الكهربائية. هذه الكمية تغذي محطات رئيسية في بغداد ومدن الجنوب والفرات الأوسط، ومع أي تخفيض في الإمدادات، يفقد العراق 7-8 جيجاواط من قدرته الإنتاجية، ما يؤدي إلى انقطاعات واسعة في التيار. المفارقة أن العراق لا يعاني من نقص في الغاز، بل في استثماره، حيث يحرق يوميًا أكثر من 1.8 مليار قدم مكعب من الغاز المصاحب لاستخراج النفط، أي ما يعادل نحو 55% من إنتاجه، وهو ما يجعله ثاني أكبر دولة في العالم من حيث حرق الغاز، بعد روسيا.
لكن هذا الواقع في طريقه للتغيير. الحكومة العراقية، بالشراكة مع شركات عالمية، أطلقت مشاريع ضخمة لاستثمار الغاز المصاحب في حقول مثل الرميلة، غرب القرنة، الحلفاية، ومجنون، حيث تم توقيع عقود مع شركات مثل توتال إنرجي الفرنسية، وبيكر هيوز الأمريكية، وشلمبرجير، بهدف تحويل هذه الكميات المحترقة إلى وقود فعلي لمحطات الكهرباء. ووفقًا للخطط الحالية، فإن هذه المشاريع ستضيف تدريجيًا 2.5 مليار قدم مكعب يوميًا إلى إنتاج العراق بحلول 2028، ما يكفي لتحقيق الاكتفاء الذاتي تمامًا، بل وتحويل العراق إلى مصدر محتمل للغاز بدلًا من كونه مستوردًا.
إلى جانب استثمار الغاز المصاحب، يعمل العراق على تنويع مصادر الطاقة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. مشروع الربط الكهربائي مع دول الخليج، الذي بدأ تنفيذه بالفعل، سيضيف 1.5 جيجاواط من الكهرباء خلال السنوات القادمة، فيما تعمل بغداد على تنفيذ مشاريع للطاقة الشمسية تستهدف توليد 10 جيجاواط بحلول 2030، وهو ما سيخفف من الضغط على استهلاك الغاز في تشغيل المحطات التقليدية.
هذه التحركات ليست مجرد خطط على الورق، بل ضرورة فرضتها الحاجة الملحة. فقد شهد العراق خلال السنوات الماضية تذبذبًا مستمرًا في إمدادات الغاز، سواء بسبب تراكم الديون أو الضغوط السياسية على طهران، ما جعل ملف الطاقة واحدًا من أكثر الملفات حساسية في البلاد. وللمرة الأولى، تتحرك الحكومة بخطوات عملية لسد الفجوة بدلًا من البحث عن حلول مؤقتة، وهو ما يعني أن السنوات القادمة قد تحمل تغييرًا جوهريًا في مشهد الطاقة العراقي.
إذا استمرت هذه المشاريع على المسار المخطط له، فإن العراق لن يكون بحاجة إلى استيراد الغاز بعد 2028، بل سيعتمد بالكامل على إنتاجه المحلي. وهذا لا يعني فقط تحسين استقرار الكهرباء، بل أيضًا تقليل الإنفاق على الاستيراد، حيث ينفق العراق نحو 4 مليارات دولار سنويًا على شراء الغاز والكهرباء من الخارج. توفير هذا المبلغ سيمكن الحكومة من استثماره في قطاعات أخرى، مثل تطوير شبكات النقل والتوزيع، التي تعاني من تهالك مزمن يؤثر على كفاءة الإمدادات.
في النهاية، بلاد الرافدين أمام فرصة تاريخية لإنهاء أزمة الطاقة التي رافقته لعقود، فالمعادلة التي كانت تبدو مستحيلة بدأت تتغير، والخطوات التي تُتخذ اليوم قد تعني أن الكهرباء لن تبقى أسيرة قرارات الخارج، بل ستصبح جزءًا من قدرة العراق على إدارة موارده باستقلالية، وربما حتى تصدير ما كان يومًا يحترق بلا فائدة في الهواء.