الحرب والشعر والقانون
كتبت .. حنان جنّان
يعتبر ابن خلدون أن الحرب ظاهرة اجتماعية طبيعية بالنسبة للبشر لا تخلو منها أمّة أو جيل، فخلال 3400 سنة من التاريخ المعروف للإنسانية لا يوجد إلا 250 سنة فقط من السلم العام. والشعر من أقدم الفنون التي "أرّخت" للحروب.
ولكن يبدو أنّ لميثاق الأمم المتحدة رأي آخر، فقد نصّت ديباجته على ما يلي: "نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانا يعجز عنها الوصف..أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معا في سلم وحسن جوار".
فهل نجحت "شعوب الأمم المتحدة" في القضاء على الحروب، أو على الأقل في جعلها حروبا إنسانية يسود فيها القانون؟
سأتناول بالدرس علاقة الحرب بالشعر في جزء أوّل (I) ثمّ علاقتها بالقانون في جزء ثانٍ(II).
I- الحرب والشعر: الملحمة والانكسار وجهان لعملة واحدة:
بدأت الحكاية بالشعر الملحمي في الحضارات القديمة، شعر غلب عليه النفس البطولي والحماسي. مثل ملحمة قلقامش، والإلياذة والأوديسة التي أرّخت لحرب طروادة.
كما كانت الحرب موضوعا أساسيا للشعر الجاهلي، حيث ينتقل التنافس من ساحات الحرب إلى ساحات الشعر، وتتحوّل سوق عكاظ إلى ساحة وغى يحمى فيها الوطيس للفوز ونيل شرف المعلقات (أ). قبل أن "ينكسر" الشعراء العرب أمام النكبة والنكسة (ب).
1- الشعر الجاهلي: شعر ملحميّ بامتياز:
عرفت شبه الجزيرة العربية حروبا وصراعات بين القبائل. وكان الشعر أحد الأسلحة التي استعملت في هذه المعارك. شعر يلهب الحماس ويستفزّ الفرسان للذود عن الأرض والعرض. مثل الشاعرة عفيرة بنت عباد الجديسيّة التي استنهضت همة قبيلتها للثأر لها وعدم الاستسلام للظلم، فخاطبتهم:
ولو أننا كنــا رجــــالا وكنتــم
نســاء لكنّــا لا نقــرّ بــذا الفعــل
فموتوا كراما أو أميتوا عدوّكم
ودبّوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإن كنتم لم تغضبوا بعد هذه
فكونوا نساء لا تعاب من الكحــل
وشعر يباهي بأخلاق الفرسان ويتغنى بالنبل والتعفف عن الغنائم، مثل عنترة بن شدّاد، الفارس الذي كان بلاؤه الحسن في حرب داحس والغبراء سببا في تحريره من العبوديّة:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالـك
إن كنت جاهلة بما لــم تعلمـي
يخبرك من شهد الوقيعة أنّني
أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم
وشعر يفاخر بالدمّ، مثل عمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجـــل علينـــا
وانظرنــا نخبــرك اليقينــا
بأنّا نورد الرايات بيضـــا
ونصدرهنّ حُمْرا قد روينـا
لنا الدنيا ومن أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
إذا بلغ الفطام لنــا صبــيّ
تخرّ له الجبابـــر ساجدينــا
فكيف تحوّلت الملجمة إلى انكسار؟
2- شعر النكسة:
النكسة هي ثاني هزيمة للعرب أمام الكيان الصهيوني بعد نكبة 1948. كان تأثيرها كبيرا على الشعراء العرب، فقط مثلت منعرجا خطيرا في تاريخ العرب وسقطت كل الشعارات التي تغنت بالوحدة العربية.
سقط صلاح جاهين في فخ الاكتئاب بعد إيمان عميق بالتجربة الناصرية تجسّد في أشعار حماسيّة لحّن البعض منها كمال الطويل وغناها عبد الحليم حافظ (يا أهلا بالمعارك يا بخت مين يشارك) و أمّ كلثوم (والله زمان يا سلاحي اشتقت لك في كفاحي).
وسقط أحمد فؤاد نجم في السخرية التي بطعم العلقم: الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يامحلا رجعة ضباطنا من خط النار يا أهل مصر المحميّة بالحرامية يعني ايه لما يموت مليون أو كل الكون العمر أصلا موش مضمون..
وتراوح عبد الرحمان الأبنودي بين الإحباط والأمل، بين الظلمات والنور: عدّى النهار والمغربيّة جايّه تتحفى ورا ظهر الشجر وعشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر ...
وأمعن مظفر النواب في "البذاءة" والسخط بعد انتهاك "القدس عروس عروبتنا". بينما تحوّل نزار قباني من " شاعر يكتب الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين".
قائمة شعر "الانكسار الحربيّ" والهزيمة طويلة وما يجمع بينها وبين شعر الملحمة هو الوجع وانتهاك حقوق الإنسان. لذلك هما وجهان لعملة واحدة هي بشاعة الحرب.
فماذا عن علاقة الحرب بالقانون؟
ــ IIالحرب والقانون: القانون الدّولي للحرب:
للحرب قانون ينظمها. وعن المفارقة بين قوة القانون وقانون القوة سأحدثكم.
1 - قوّة القانون:
قانون الحرب أو القانون الدولي الإنساني هي مجموعة المبادئ التي تنظم العلاقات بين الأطراف المتنازعة وتحمي حقوق الإنسان الأساسية زمن الحرب. وتعتبر الاتفاقيات الدولية أهم مصدر لهذا القانون. ونذكر منها اتفاقيات جنيف الأربعة لسنوات 1864، 1906، 1929 و1949. ومعها ثلاث بروتوكولات فيها إضافات وتعديلات تمّ إلحاقها بين السنوات 1977 و2005.
وكأمثلة عن بعض المبادئ التي ينص عليها قانون الحرب، يمكن الاعتماد على اتفاقية جنيف حول حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب المؤرّخة في 12/08/1949 وفيها 159 مادّة:
- لا يجوز الهجوم على المستشفيات المدنية.
- يجب حماية الأطفال دون سن 15 سنة: لا يجوز الاعتماد على الأطفال في النزاعات المسلحة، وعلى أطراف النزاع اتخاذ التدابير الضرورية لضمان عدم إهمال الأطفال الذين تيتموا أو افترقوا عن عائلاتهم بسبب الحرب (إعالتهم، ممارسة دينهم و تعليمهم...)
- يجب حماية النساء بصفة خاصّة ضدّ أي اعتداء على شرفهنّ لا سيما ضدّ الاغتصاب والإكراه على الدعارة.
- أخذ الرهائن ممنوع.
إذن، قانون الحرب "عادل ومنصف وإنساني". أشعر بالحرج من هذه التوصيفات ويتحول الحرج إلى غضب عندما أتذكّر مثلا أنه بتاريخ 13/02/1991 قصفت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ملجأ العامرية في بغداد. وعن هذه "الجريمة" ألّف الفنان نصير شمة قطعة موسيقية رائعة فاحت منها رائحة الموت، سمعنا من خلالها أصوات القنابل وصراخ الأطفال.
فهل يعاقب مجرمو الحرب؟
نعم ولكن... وهذه هي المفارقة بين قوّة القانون وقانون القوة في علاقة بالحرب.
جميع الحقوق محفوظة (ميل نيوز)