آثار ذي قار .. ذاكرة طويلة من النهب والنبش والتخريب
علاء كولي
ترتبط قصة نبش المواقع الأثرية في محافظة ذي قار ونهبها بذاكرة تاريخية طويلة، بدأت بوادرها بنهاية القرن التاسع عشر ودخول أول بعثة أجنبية لمدينة كرسو التابعة لمملكة لكش الواقعة ما بين مدينتي الدواية والنصر شمال الناصرية، حينها سرقت عشرات القطع الآثارية منها، لتفتح الباب لاحقا على السرقة التي أصبحت فيما بعد ظاهرة استمرت سنوات طويلة، وسط اتهامات للسلطات الأمنية بالتقصير.
بحسب المختصين بمجال الآثار فإن ذي قار تمتلك أكثر من 1200 موقع أثري متناثر على مساحات شاسعة في أغلب الأقضية والنواحي، وتعود هذه المواقع إلى حقب زمنية مختلفة، بدءا من العصر السومري بكل سلالته، وصولًا للعهد الإسلامي، لم ينقب منها سوى عدد بسيط، فيما لاتزال الكثير منها مجرد أطلال وتلال شاخصة حتى الآن.
النبش عبر التاريخ
في العام 1877 عملت بعثة فرنسية بين مدينة الدواية والنصر، لتكتشف في العام 1881 مدينة تلو (كرسو) وهي بمثابة مدينة دينية تابعة لمملكة لكش، وكان القنصل الفرنسي آنذاك (أرنست دي سارزيك) وهو عالم آثار مشرفا على الحملة، حيث قدرت القطع التي اخذها الفرنسيون من هذا الموقع بنحو 30 الف قطعة أثرية بينها نصب للنسور و30 مجسما للملك كوديا (الملك الثاني عشر لسلالة لكش 2144 - 2124 ق)، ليتم بيعها بعد ذلك على متحف اللوفر الفرنسي بمبلغ 30 الف فرنك، بحسب الاثاري عامر عبدالرزاق.
كانت الدولة العثمانية تتعامل مع البعثات الأجنبية بطريقة "المناصفة" لدى عملها في أي موقع اثري، حيث تعطي للبعثة نصف القطع التي تستخرجها والنصف الاخر تذهب لادارة الدولة في اسطنبول أو تقوم ببيعها، لكن الأمر تغير حتى فترة العشرينيات، حيث أصبحت تجارة الاثار، أمرا طبيعيا في الاسواق والاماكن العامة.
يقول الكاتب والمترجم والمهتم بمجال الآثار، ليث سهر، إن "هناك موجتين للنبش العشوائي تعرضت لها المواقع الآثارية في ذي قار، الأولى كانت في القرن التاسع عشر وما بعده حيث قادها المستشرقين ولا ننسى ما فعله القنصل الفرنسي دي سارزيك في مدينة كرسو الأثرية ويقال إن عائلته ثرية حتى الآن بسبب هذه الآثار".
لكن الموجة الأعنف التي تعرضت لها الآثار في العراق وذي قار بشكل خاص، كما يقول سهر، كانت ما بعد عام 1990 حيث تعرضت المواقع للنبش والتنقيب غير القانوني والعشوائي الذي استنزف المواقع الآثارية، مثل موقع مملكة أوما في قضاء الرفاعي ومملكة لكش في قضاء الدواية.
يؤكد سهر بأنه خلال فترة العشرينيات وحتى الثلاثينيات وما بعدها، كان النبش العشوائي هو السائد، حيث يقوم الناس بإخراج القطع الآثارية ومن ثم يتم بيعها في بغداد لتجار يهود ومسيح ومسلمين، كانت بمثابة عملية تجارية طبيعية لا يمكن القول عنها عملية تهريب واستمر الحال حتى مجيء الجمهورية.
ويقول المهتم الآثاري، إن "الوضع إختلف تماما بعد مجيئ النظام الجمهوري، إذ أصبح هناك تضييق على المتاجرين أو الذين يتعاملون بالآثار، كذلك صادف خلال تلك الفترة وصول عالم الآثار صاموئيل نوح كريمر إلى العراق، لكن في التسعينيات فتحت عدة منافذ لتهريب الآثار باتجاه تركيا والأردن".
سوق الآثار
كانت الآثار التي تخرج من المواقع الآثارية بمحافظة ذي قار في كل الحقب الزمنية تجد لها سوقا رائجة مقارنة بالمواقع الآثارية الأخرى في المحافظات العراقية بسبب قدمها كونها تمثل الإنسان الأول في هذه المنطقة، لكنها تجي بسرية تامة، حسبما يقول المنقب والباحث الاثاري حسين علي.
علي يؤكد أن "نظام صدام حسين تعامل بكل حدية مع مهربي الآثار لكنه دخل في مأزق آخر حينما حاول وضع نفسه في تلك المواقع عبر وضع صوره الخاصة والعبث بتلك المواقع، كما أن الفريق المقرب من رئيس النظام السابق كان لديه تواصل مع مافيات عالمية لبيع الآثار".
في حقب زمنية مختلفة كما يقول الأثاري حسين علي، كان أحد أسواق مدينة الكاظمية رائجا بتجارة الآثار، كونه قريب على محال الصاغة وسوقا يمر من خلاله الجميع، أما خلال التسعينيات بعد تشديد الاجراءات الحكومية اختفت تلك الآثار من الأسواق، ومن ثم لاحقا أصبحت تجارة سرية، وبعد العام 2003 جرى التعتيم بشكل دقيق للغاية على بيع الآثار وظل التجار يبتكرون حيلا لتهريبها من مدينة لأخرى.
لا يوجد خط أو طريق ثابت لتهريب الاثار، أحيانا يتم تهريبها عبر عجلات نقل سكراب الحديد، أو عبر عجلات نقل المواد الغذائية أو تهريبها بشكلًا فردي، وتسلك تلك المافيات طرقًا مختلفة للتهريب منها طريق كربلاء وصولًا إلى كردستان العراق ومن ثم إلى تركيا أو عبر محافظة الانبار وصولًا إلى سوريا أو الأردن.
الهجمة على المواقع الآثارية بالناصرية ارتفعت بشكل ملحوظ بعد سقوط نظام صدام، حتى صدور فتوى المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني في العام 2004، بشأن تجريم سرقة الآثار، حيث أسهمت بشكل كبير بالحد من عمليات نبش وسرقة الآثار، حتى أن الكثير من المواطنين في محافظات مختلفة سلموا مئات القطع الأثرية التي كانت بحوزتهم إلى دوائر الآثار.
طرق نبش المواقع الآثارية؟
بنهاية العام 1999، كانت هناك بعثة تنقيب عراقية وصلت الى موقع مملكة أوما (تل جوخا 30 غرب) مدينة الرفاعي بشمال الناصرية وبدأت في التنقيب حيث قامت بتشغيل عشرات الشباب للعمل في الموقع من خلال الحفر واستخراج القطع الآثارية وظلت هذه البعثة ثلاث سنوات ثم انسحبت قبل سقوط نظام صدام بحسب ما يقوله باحث آثاري فضل عدم ذكر اسمه.
هولاء الشباب الذين عملوا مع البعثة كما يقول الباحث، تعلموا جيدا منها كيف يتم استخراج القطع الآثارية بعناية وكيف يتم العثور، لذلك عادوا إلى المملكة بعدما انتهى عمل البعثة ومغادرة العراق، للنبش والبحث عن الاثار وبيعها في السوق السوداء، مؤكدًا أن هؤلاء الشباب غالبيتهم من سكان المناطق والقرى القريبة من مملكة أوما.
إضافة للنبش الذي يتم بطرق محترفة كما يقول الباحث الآثاري، كانت هناك عمليات نبش أخرى تحصل بطريقة غير نظامية وغير شرعية ينفذها تجار آثار، وفي كثير من الأحيان حينما يتم استخراج أي قطع آثارية، يتم تدمير الحفر بالكامل مما يعرض الآثاري للضرر بالكامل.
المواقع المنهوبة
المواقع الاثارية التي تتعرض إلى النهب والنبش غير الشرعي، عادة ما تكون بعيدة عن التجمعات البشرية، وفقا لمصدر أمني في شرطة ذي قار فضل عدم الكشف عن هويته.
المصدر يقول إن "الأجهزة الأمنية لم توفر حماية كافية لتلك المواقع، ما ساهم بشكل كبير في عمليات نبش وسرقة الاثار"، مبينًا أن "هناك أقل من 200 حارس أمني خاص بالمواقع الاثارية بينما يوجد في الناصرية أكثر من 1200 موقعًا اثريا وهي مقارنة صعبة للغاية".
وبحسب المصدر الأمني، فإن "بعض العشائر ساهمت إلى حد كبير في حفظ الكثير من المواقع الاثارية ومنع عمليات النبش"، مؤكدًا أن "عمليات النبش غالبا ما تكون في مواقع بعيدة عن الشرطة وقوات حماية بالآثار".
ويكشف المصدر عن المواقع التي تعرضت للنهب والنبش في السنوات السابقة، وهي "مملكة لارسا غرب الناصرية ومملكة كرسو في لكش شمال الناصرية، وأكثر المدن التي تعرضت للنبش والسرقة لعدد من المراتب هي مملكة أوما في قضاء الرفاعي".
حتى اللحظة، لا توجد إحصائيات دقيقة وموثقة عن حجم القطع الآثارية التي تم سرقتها من المواقع الآثارية بحسب حديث المصدر الأمني والتي تنوعت من حقب زمنية مختلفة، لكن بين آونة واخرى يقدم مواطنين على تسليم قطع آثارية كانت بحوزتهم إلى متحف الناصرية.
إجراءات أمنية
يؤكد مصدر أمني أن "الشرطة تمكنت في شهري آب وأيلول عام 2020، من مطاردة مجموعة مسلحة كانت تحاول الدخول لموقع اثري، واحبطت محاولة سرقة 37 قطعة أثرية، قرب (تل جوخة) فيما تمكنت أيضا في موقع قريب من جوخة من ضبط 401 قطعة نقدية وفارية".
يضيف المصدر الأمني بن "القوات الأمنية منذ عمليات المطاردة التي حصلت قبل عامين، وهي تقوم بتسيير دوريات مستمرة للشرطة سيما في موقع (تل جوخة) والمناطق القريبة منه، كونه يبعد أكثر من 30 كلم عن أقرب منطقة تجمع بشري".
المصدر يؤكد أن الحكومة شكلت ما بعد العام 2003 قوة خاصة لحماية المواقع الآثارية بعناصر مجهزة ومدربة بأجهزة وأسلحة ووسائل اتصال ومعدات وخرائط حديثة واستطاعت أن تؤمن الحماية على تلك المواقع بشكل جيد، لكن ما حصل أنه تمت إضافة هذه القوة الى شرطة حماية المنشآت مثل المدارس والمصارف وتركت المواقع بلا حماية.
وعلى الرغم مما مرت به المواقع الآثارية بذي قار من ظروف قاهرة، الا أن البعثات الأجنبية ما تزال تعمل في بعض المواقع وتكتشف بين الفينة والأخرى مواقعا وتفاصيل مبهرة، يمكنها أن تغير القناعة عن الكثير من الأحداث الماضية، فقبل أيام تم اكتشاف حانة وفيها ثلاجة تعود لأكثر من 5 الاف عام في مدينة لكش السومرية في ذي قار.
جميع الحقوق محفوظة (ميل نيوز)