"أشباح" تأبى مغادرة "المغارة الكبيرة" .. السوداني يُغامر في حقل ألغام لوقف النزيف المالي
حسن الشنون
لم يعد الفساد الذي ابتلي فيه العراق منذ عقود طويلة، أمرًا تنكره الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد ولا مؤسساتها، ولا يمكن تحديد حجمه لتشبك خيوطه المعقدة.
وعلى مر السنوات أعلنت السلطات السابقة حربًا شاملة على الفساد، لكنها فشلت وواجهت انتقادات واسعة لانها لم تواجه جوهر القضية وتصل لمراحل الحسم فيما يتعلق بمواجهة كبار الفاسدين، ليبقى الفساد أخطر الأوبئة التي تهدد ثقة المواطن العراقي بمصداقية قادته وقرارات الحكومة.
على ضوء ذلك لم يكن مستغربًا أن يصنف العراق في العام 2022 بالمرتبة 157 من أصل 180 دولة في مؤشر إدراك الفساد العالمي، لمنظمة الشفافية الدولية، بالتالي من الصعوبة اجتثاث الفساد من العراق بشكل نهائي في ظل الفرص الاقتصادية الضخمة ودور النفوذ السياسي فيها.
رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، الذي تولى إدارة البلاد، في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2022، بعد أزمة سياسية غير مسبوقة وصلت إلى حد التصادم المسلح داخل المنطقة الخضراء وسط العاصمة بغداد، تعهد في جلسة تشكيل الحكومة أمام مجلس النواب، بالمضي قدمًا في محاربة الفساد بكل أشكاله وأنواعه، عبر القوانين والتشريعات الصارمة باعتبارها إحدى أولوياته الرئيسية.
أولى خطوات السوداني تمثلت باتباع نهج عدم التسامح مطلقًا مع جائحة الفساد، التي أعتبرها أكثر فتكًا من "جائحة كورونا"، فالتحدي الأول الذي واجهته حكومته، تمثل في فضيحة اختلاس 3.7 تريليون دينار عراقي (2.5 مليار دولار) من مكتب الضرائب في عملية احتيال وصفت بـ"سرقة القرن" قد حدثت في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي.
وباعتبار أن "آفة الفساد" تعيق التنمية المستدامة، والنمو الاقتصادي وتزعزع استقرار البلاد، وتوفر فرصًا للجماعات الإجرامية، أطلق السوداني في منتصف كانون الأول 2022، حملة عملية لمكافحة الفساد بكل أشكاله وأنواعه.
نجاح الحملة التي أطلقها رئيس الوزراء، تتطلب دعمًا دوليًا، لذا وجه طلبًا للدول الشقيقة والصديقة للعراق بمساعدته في استرداد أمواله المنهوبة والمهربة، وتسليم المطلوبين الذين يتخذون من هذه الدول محل إقامة لهم لتعزيز التحقيق في الفساد ومقاضاته، وتعزيز الشفافية.
ويعتقد السوداني أن الفساد يقف وراء العديد من المشاكل الاقتصادية ويضعف هيبة الدولة ويزيد الفقر والبطالة وسوء الخدمات، ويؤكد أن برنامجه الوزاري "يتضمن سياسات وإجراءات حازمة ومتعددة الجوانب والمستويات لمكافحة هذه الجائحة".
آليات مكافحة الفساد
طالما حاولت الحكومات المتعاقبة في البلاد تبنى مكافحة الفساد، إلا أنها واجهت انتقادات واسعة لانها لم تلامس جوهر القضية بما يتعلق باعتقال الفاسدين الكبار بمؤسسات الدولة المختلفة، حسبما يقول عضو اللجنة القانونية النيابية عبد الكريم عبطان.
ووفقا لعبطان فإن "حملة مكافحة الفساد تحتاج آليات مختلفة منها تخصيص منصة إلكترونية لاستقبال شكاوى المواطنين الخاصة بالفساد وكذلك مراقبة البرامج التلفزيونية التي تتحدث عن الفساد وتشكيل قوات عسكرية خاصة باعتقال مافيات الفساد في مؤسسات ودوائر الدولة".
وفيما يحدد عضو اللجنة القانونية أبرز ثلاثة ملفات فساد تبدأ بعقارات الدولة التي استولت عليها الأحزاب أو الشخصيات المتنفذة وتقدر بأكثر من 50 مليار دولار، وملف الشركات الوهمية والمشاريع المتلكئة التي تقدر بـ 1450 مشروعًا تسبب تركها بتكبيد العراق مبالغ طائلة، فضلًا عن ملف الابتزاز والفساد السياسي"، مؤكداً أن "ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة يمتلكان معلومات كاملة عن ملفات الفساد وحركة الأموال المنهوبة".
خسر العراق بسبب الفساد 450 مليار دولار من موازناته العامة ما بين عامي 2003-2015، ولإيقاف هذا النزيف المالي يدعو عبطان، الحكومة إلى "الاقتداء بتجربة سنغافورا التي احتلت المرتبة الأولى بين الدول الخمس الأقل فسادًا في العالم في عام 2022، حيث بدأت في تطهير مؤسسات الدولة من كبار وصغار الموظفين الفاسدين".
في الوقت نفسه، ساعدت المحسوبية والمحاصصة في الاستيلاء على العقود العامة والتراخيص والامتيازات والرشاوى وغيرها من الملفات الفاسدة، مجموعة كبيرة من المتنفذين بالتلاعب بمقدرات الوزارات وتقويض ثقة الناس في حكومة.
وبهدف تسريع مواجهة الملفات الكبرى واسترداد المطلوبين بقضايا الفساد والأموال العامة المعتدى عليها، شكّل رئيس الحكومة محمد شياع السوداني في 16 تشرين الثاني 2022، الهيئة العليا لمكافحة الفساد، برئاسة مدير خلية الصقور الاستخبارية السابق عبد الكريم عبد فاضل البصري، وأجرى تعديلات إدارية واسعة في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الأجهزة الأمنية، في محاولة لإبعاد المسؤولين غير الأكفاء أو المشتبه في تورطهم في الفساد.
جهود هيئة مكافحة الفساد ساهمت في استرداد أكثر من 320 مليار دينار عراقي كوجبة أولى وثانية من الأموال المسروقة ضمن ما تُعرف بسرقة القرن، واعتقال المتهم الأبرز في القضية نور زهير، والحجز على أملاكه وأمواله، وتفكيك شبكات تهريب النفط في بغداد والبصرة وديالى وكركوك، واعتقال 121 متهمًا بعمليات التهريب من الأجهزة الأمنية.
حملة ملاحقة الفساد تضمنت أيضًا سحب يد محافظ الديوانية زهير علي الشعلان لوجود ملفات تحقيقية تخص شبهات فساد إداري ومالي، وتنفيذ أمر قبضٍ بحق رئيس هيئة استثمار محافظة صلاح الدين؛ على خلفية طلب منفعة لأداء عمل من أعمال الوظيفة، واعتقال مدير هيئة الضرائب السابق وزوجته، وضبط مبالغ مالية كبيرة ومصوغات ذهبية وعقارات، فضلًا عن إعادة تشغيل 1600 مشروع تنموي متلكئ.
وغالباً ما يربط السوداني في تصريحاته ومواقفه المعلنة، علاقة العراق بالمجتمع الدولي، بمدى تعاون الدول في تسليم المطلوبين وملف استرداد الأموال، وهي سياسة أثمرت عن نتائج في هذا الإطار، كان آخرها إعلان هيئة النزاهة الاتحادية، إلقاء القبض على حمدية الجاف المدير العام للمصرف العراقي للتجارة الأسبق، في الإمارات وتسليمها لبغداد بتهمة الفساد المالي والإداري، وذلك بالتزامن مع زيارة أجراها السوداني إلى أبو ظبي.
ويعمل العراق في الوقت الحالي، بالتنسيق مع واشنطن على استرداد أكثر من 80 مليون دولار من الولايات المتحدة الأمريكية وهي جزء من أموال النظام السابق المهربة.
شعارات فضفاضة
"لا للفساد.. نعم للإصلاح"، شعارات وخطابات تقليدية، كثيرًا ما سئم المواطن من سماعها مع قرب كل انتخابات برلمانية جديدة. إنقاذ العراق من آفة الفساد، يتطلب بحسب القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، محمود خوشناو، "قرارًا سياسياً جريئاً لتجفيف منابعه ومواجهة المنتفعين المحليين والدوليين".
خوشناو يرى أن "استشراء الفساد جعل حكومة السوداني تواجه تحديًا كبيرًا"، مؤكدًا "لا خيار أمام الحكومة الحالية إلا مواجهة الفساد ومكافحته".
ورهن القيادي الكردي، تقديم الخدمات والنهوض الاقتصادي والزراعي، بـ"القضاء على الفساد"، لافتًا إلى أن "آليات مكافحة الفساد التي اعتمدتها الحكومة ستكون تحت وقع الضغط السياسي والمراقبة الشعبية".
كانت مكافحة الكسب غير المشروع على رأس مطالب الاحتجاجات الجماهيرية التي اندلعت في العراق مطلع تشرين الأول 2019.
يقوض الفساد المؤسسات الديمقراطية وثقة الجمهور ويفرغ الاقتصادات، حسبما يقول عضو لجنة النزاهة النيابية هادي السلامي، الذي يرى أن "تكاليف الفساد تتجاوز الحدود وتؤثر على الصحة وحقوق الإنسان والأمن والازدهار".
السلامي يقول إن "استمرار ظاهرة الفساد يجعل البلاد عرضة للتأثير غير المبرر من الجهات الأجنبية، التي تزعزع استقرار الدولة فضلًا عن خلق فرصًا جديدة للرشوة وسرقة الموارد العامة. في المقابل، يمكن للفساد أيضًا أن يؤجج الصراع الداخلي، والتغلب على سيادة القانون.
في عام 2021، قدّر رئيس الجمهورية السابق برهم صالح، خسائر العراق بـ150 مليار دولار جراء الاختلاس المالي وتهريب الأموال إلى خارج البلاد منذ العام 2003، فيما قدّرت لجنة النزاهة النيابية حجم الأموال المهربة خارج العراق بنحو 350 تريليون دينار (239.7 مليار دولار)، وكشفت عن وجود ضغوط سياسية لعرقلة مكافحة الفساد.
ليكون الفساد سببًا رئيساً لفشل الحكومات العراقية المتعاقبة في تحسين الخدمات العامة الأساسية مثل التعليم والكهرباء ومياه الشرب والقطاع الصحي وغيرها، وفقًا للسلامي.
فجوات قانونية
الناشط البارز في مجال مكافحة الفساد سعيد ياسين، يقول إن "قانون العقوبات العراقي رقم 111 المعدل لسنة 1960 لا يلبي متطلبات عملية مكافحة الفساد، والتزامات البلاد تجاه اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد".
ياسين يقر بوجود فجوات قانونية تحتاج إلى تعديل وتشديد العقوبات، كما يطالب بتعديل قوانين هيئة النزاهة والكسب غير المشروع وإصلاح المؤسسات الرقابية لردع الفاسدين.
وفي إشارة إلى الضوابط الجديدة لمكافحة الفساد، دعا ياسين إلى مراجعة العقود الحكومية وأتمتة الكمارك للسيطرة على إيراداتها التي تدخل خزينة الدولة بما مقداره 80% من تلك الإيرادات، وتجريم الفعل السياسي الذي غالبًا ما يوفر الحصانة للفاسدين".
وقال الناشط في مجال مكافحة الفساد، إن "إقالة واعتقال المتهمين بالفساد بوادر لنجاح نظام مكافحة الفساد الذي تم تشكيله حديثًا في العراق".
من جانبه رهن الباحث في الشأن السياسي، غالب الدعمي، نجاح خطوات الحكومة في مكافحة الفساد بـ"دعم الهيئات الرقابية والاعتماد على تقارير ديوان الرقابة المالية وتفعيل ملفات هيئة النزاهة وتحييد نفوذ القوى السياسية، لان المهمة ليست مستحيلة".
وأكد الدعمي أن "النوايا وحدها لا تكفي في تصفير ملفات الفساد بل تحتاج إلى قوة قرار وتطبيق القانون على الجميع بدون تسامح، وأن تركز على الفساد المنهجي والوقاية، وأن تتمتع بجميع الصلاحيات والموارد اللازمة".
وفي إحاطة قدمتها ممثلة الأمم المتحدة الخاصة في العراق، جينين هينيس بلاسخارت، لمجلس الأمن، مطلع شباط 2023، قالت إن الحكومة العراقية اتخذت "خطوات مهمة"، بما في ذلك استعادة الأموال المسروقة بصفقة القرن الشهيرة، لكنها دعت للقيام بالمزيد، لا سيما في مجالات الطاقة والبيئة والأمن.
جميع الحقوق محفوظة (ميل نيوز)