مئات آلاف الفلسطينيين يعودون إلى غزة المدمرة ورسالتهم: لن نستسلم

مئات آلاف الفلسطينيين يعودون إلى غزة المدمرة ورسالتهم: لن نستسلم

+A -A
  • اليوم, 09:01
  • 38 مشاهدة
  • عربي و دولي

بغداد- ميل  

على طول شارع الرشيد شمال غزة، تسير جموع الفلسطينيين حفاة وعلى عربات متهالكة، يحملون ما تبقّى من متاعهم وأطفالهم، عائدين إلى بيوت لم تعد قائمة، وإلى أحياء مسحتها الحرب عن الخريطة.

لم يكن هذا المشهد عاديا؛ آلاف الرجال والنساء والأطفال تدفقوا من الجنوب إلى الشمال بعد إعلان وقف إطلاق النار، في مشهد إنساني تختلط فيه الدموع بالدهشة، والحنين بالخوف، والرجاء بالألم.

وتقول نبيلة بصل، وهي تمسك بيد ابنتها التي أُصيبت في رأسها في قصف إسرائيلي، "الشعور لا يوصف، الحمد لله... إن شاء الله تكون آخر معاناة إلنا. مبسوطين إنها خلصت الحرب ووقفت المعاناة". 

لكن الفرح القصير لا يخفي المأساة، فحين وصل أحمد الجعبري إلى منزله في غزة، وجد أطلالا بدل الجدران التي بناها قبل أربعين عاما، وقال في لحظة ضياع "دمر بيتي في لحظة. لا دماء اليوم، بس وين نروح؟ هل سنعيش عشرين سنة في خيمة؟". 

حين اقتربت القوافل البشرية من قلب غزة، بدا أن المدينة التي يعرفونها لم تعد كما كانت.

نهى داود، وهي أم لخمسة أبناء من حي الشجاعية، عادت مشيا من دير البلح لتجد بيتها ركاما: "ما بنقدر نميز بيوتنا، الشوارع راحت، كل شي انمسح. كأن المدينة مرت بكارثة ما بتخلي حجر على حجر". 

تمسح دموعها وهي تشير إلى الأنقاض: "مش عارفة وين أروح، لا بيت ولا مكان، لا مي ولا كهربا... إحنا عايشين على ولا شي". 

في حي التفاح، وقف أحمد مقاط، شاب فقد أفرادا من عائلته، أمام أنقاض منزله. "المنطقة مسحت بالكامل، لا بيوت ولا شوارع، بس جبال ركام". 

بينما كان أبو أنس سكر يحاول إزالة الحجارة من أمام بيته المكون من سبعة طوابق، قال بصوت مبحوح "عدنا ندور على بيت يأوي 47 من عيلتنا، بس لقيناه كومة حجارة. بدنا نعيش فوق الركام، ما في خيام ولا مراكز إيواء".

بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن أكثر من 90% من البنية التحتية المدنية دمر، وتجاوزت الخسائر 70 مليار دولار.

نحو 300 ألف وحدة سكنية سويت بالأرض، وتهجر ما يقارب مليوني إنسان، كثير منهم يعيشون اليوم في خيام بلا ماء ولا كهرباء ولا أمان.

وتقول ربى شهاب، ناشطة شبابية جاءت مع فريق تطوعي لتوزيع الماء والغذاء: "الناس راجعة على الذاكرة، مش على البيوت. بس هاي الرجعة بحد ذاتها حياة جديدة. بعد عامين من الجحيم، الرجعة أمل، حتى لو على الرماد."

ويقول الطبيب خالد العراج من مجمع الشفاء الطبي: "الهدنة سياسية، بس الواقع الإنساني ما تغير. المرضى بنعالجهم تحت الخيام، ما في مستشفيات جاهزة ولا كهرباء". 

ويضيف، "العودة رغم كل شيء هي بداية شفاء نفسي. الناس بدها تشوف بيوتها، حتى لو صارت تراب". 

ومع غروب الشمس، ساد هدوء ثقيل على المدينة التي أنهكتها الحرب.

هدوء يشبه الصمت الذي يسبق البكاء، لكنه أيضا يشبه أنفاس مدينة تحاول أن تعود إلى الحياة، ولو من بين الركام.

في غزة، لا تنتهي الحروب... بل تتبدل وجوهها.. تحت سماء مثقلة بالدخان والغبار، تسير العائلات الفلسطينية شمالا بخطى مترددة، تعيد اكتشاف مدينتها التي لم تعد كما كانت. أمهات يحملن أطفالا أنهكهم النزوح، وشيوخ يجرون عربات صغيرة محملة بذكريات منازلهم التي صارت ترابا.

الوجوه شاحبة، العيون غارقة في حيرة لا توصف، لكن بين الركام تلمع نظرات تصر على الحياة.

يعود الغزيون إلى بيوتهم المهدمة، لا بحثا عن مأوى، بل بحثا عن معنى... عن هوية لم تستطع الحرب أن تمحوها، وعن وطن ما زال ينهض من تحت الرماد كل مرة.