هل الانتخابات المبكرة هي الحل؟

هل الانتخابات المبكرة هي الحل؟

+A -A
  • 6-03-2023, 20:40
  • 109 مشاهدة
  • اراء ومقابلات



كتب .. سعد عبد الرزاق حسين

طرحت فكرة اجراء الانتخابات المبكرة بعد تفاقم تظاهرات حراك تشرين ٢٠١٩ في معظم المحافظات الجنوبية وبغداد. تمحورت موجتها الاولى في المطالبة بالعمل للعاطلين ووظائف للشباب الجامعي الذين لم يحصلوا على فرصة للعمل.

لكن القمع الوحشي للمتظاهرين ادخل الحراك الى مرحلة ثانية انتهت بالمطالبة بأسقاط حكومة عبد المهدي، وحصل ذلك بنجاح، وكان من المؤمل ان يدخل الحراك في مرحلة اخرى متقدمة لتغير بنية النظام السياسي القائم، وذلك من خلال شعاراته المتعلقة بانهاء المحاصصة الحزبية على مناصب الحكومة، ومحاربة الفساد وتقديم الفاسدين للقضاء، والكشف عن المسؤولين في مقتل اكثر من ٧٠٠ متظاهر ومحاسبتهم، وانهاء نشاط المليشيات المسلحة التي تعمل خارج اطار الدولة، ومنع تدخل دول الجوار بالشؤون الداخلية للبلاد، وتحسين خدمات الصحة والكهرباء والتعليم وغيرها. الا ان عدم تبلور قيادة معتمدة للحراك وانتشار موجة كوفيد ١٩ المعدية والتي لم يكن معروف مداها في ذلك الحين، حال دون تحقيق هذه المطالب.

بدت استقالة عبد المهدي ورفض الحراك لعدد من مرشحي الاحزاب الحاكمة لمنصب رئيس الوزراء، بداية جيدة لتحقيق مطالب الحراك، لكن اي تغيير "سلمي" للنظام السياسي لابد وان يمر عبر البرلمان، ذلك أنه الهيئة المعتمدة لتشكيل الحكومة. ومن هنا جاءت فكرة الانتخابات المبكرة، التي لم تلق القبول من قبل جميع فئات الحراك، وكان هذا هو احد اسباب مقاطعتها، فالانتخابات لوحدها ليست هي الحل لطموحات جماهير الحراك، خاصة وان تزويرها اصبحت من المسائل السهلة والمكررة من قبل الاحزاب المسيطرة على الحكومة وأجهزتها المختلفة. ويبدو ان احد اسباب قبول احزاب السلطة بمطلب الانتخابات المبكرة جاء نتيجة مقدرتها من خلالها البقاء في السلطة، وبالتالي ضمان مصالحها، كما لم يكن لديها في ذلك الوقت الكثير من البدائل. ان تلبية مطالب الحراك الحقيقية كانت تعني تغيير البنية الاساسية للدولة ونظامها السياسي، وهكذا لم تجد جماهير الحراك في الانتخابات المبكرة وسيلة تحقق لها اهدافها، رغم ان حكومة الكاظمي كانت قد اعدت لانتخابات اتسمت نسبياً بالنزاهة، الا انه بحدود ٧٠٪ من الذين يحق لهم الانتخاب كانوا قد قاطعوها بتشجيع من الحراك. وربما ان هذه المقاطعة للانتخابات هي احدى اهم اخطاء الحراك، اذ ترك الباب مفتوحا لاحزاب السلطة لتعود ثانية للسلطة.


ليس بالامكان تعيين نوع الديمقراطية المناسبة للدولة والمجتمع في العراق. وهذا لاينطبق على العراق فحسب بل على معظم دول العالم الثالث، وحتى ينطبق بصورة اقل على الدول المتقدمة. فالديمقراطية لا تعني الانتخابات فحسب، فكثير من الدول التي تمارس الانتخابات يغلب عليها الطابع الديكتاتوري او المهيمن عليها من قبل فرد حاكم او مجموعة حاكمة. ورغم عدم امكانية تحقيق اي شكل من اشكال الديمقراطية من دون انتخابات، خاصة النزيهة منها، وهكذا يمكن تصنيف النظام الذي يمارس انتخابات دورية ونزيهة بالنظام الديمقراطي، لكن هذا لايعني بعد بان الديمقراطية قد تحققت بالكامل في هذا او ذاك البلد.


والديمقراطية انواع، تبدأ بالديمقراطية الانتخابية التي تتلخص بإجراء الانتخابات بغض النظر عن نزاهتها والتفاف الجمهور حولها، وتنتهي بالديمقراطية الليبرالية، التي ينبغي ان تبدأ من الالتزام المعياري لفكرة الديمقراطية، إذ لا يمكن أن تستمر الديمقراطية طويلاً ما لم يؤمن بها الناس، وليس كافياً الاعتقاد بشرعية الديمقراطية لضمان ديمقراطية راسخة. ولابد هنا ان تتوطد الديمقراطية على مستوى المؤسسات - الدساتير والأنظمة الانتخابية والأحزاب السياسية وما شابه، ثم تتسرب الى هياكل المجتمع المدني - التي يتم إنشاؤها تلقائيًا (جماعات المصالح، ووسائل الإعلام المستقلة، وجماعات الحقوق المدنية) الموجودة خارج نطاق سيطرة الدولة ، وتعمل على التوسط في التفاعلات بين الأفراد والحكومة. وأخيرًا، ترسيخ ظواهر عميقة ومناسبة لتعميق الديمقراطية تشمل بنية الاسرة، والدين، والقيم الأخلاقية، والوعي العرقي، والمدني، والتقاليد التاريخية الخاصة.

فالنظام السياسي الذي ولد بعد تولّي قوات الأحتلال الأمريكي في ٢٠٠٣ كان في قالبه العام ديمقراطياً، وربما ديمقراطياً ومتفائلاً للغاية، من حيث محاولته الفصل بين السلطات الثلاث، وضمان حرية التعبير والأجتماع وتأسيس الأحزاب، ومراقبة الدولة من خلال مؤسسات مستقلة عنها، وأخيراً تمكين المواطن من إنتخاب حكامه عبر انتخابات حرة ونزيهة، كل ذلك من دون وجود مؤسسات تعزز تطبيق مثل هذه المهام. ولقد اثبتت التجربة العراقية بأن اختزال الديمقراطية بالانتخابات كانت ممارسة خاطئة، فالانتخابات هي ببساطة آلية لتنفيذ الديمقراطية. إلا انه كان ينبغي من أجل تحقيق مثل هذه المهام أعطاء فرصة أطول لمرحلة إنتقالية تتكفل بإصلاح كافة الخروقات والسلبيات التي خلّفها النظام السابق، وتوفير الأمن والخدمات للمواطن، ومحاربة الأرهاب الذي نجح بالتالي في شل العملية السياسية.


اتضح من تجربة الأنتخابات التي مر بها العراق منذ ٢٠٠٥، أن الناخب العراقي لم يكن يهمه البرنامج السياسي للقائمة او الحزب الذي يصوت له قدر إهتمامه بالمكون او الطائفة التي تمثلها هذه القائمة او تلك. كانت الأحزاب والقوائم الطائفية تعمل على تأجيج مثل هذه التفرقة من خلال استخدام الفتوات الدينية، والمبالغة في كل ما يفرّق بين الطوائف من مناسبات دينية وتقاليد محلية، وغيرها. كما ساعد الارهاب الذي استند على ممارسات وفتاوي طائفية متطرفة في اتساع الفجوة بين الطوائف، التي بلغت مرات عديدة الى حدود الحروب الطائفية والأهلية. وعلى الرغم من اعتماد حكومات توافقية مثلت كل أو معظم الفائزين في الانتخابات، فإن الصراعات بين الأطراف السياسية، عطلت أعمال مجلس النواب وكذلك مجلس الوزراء. فأصبحت عملية اتخاذ القرار من القضايا الصعبة، إذ ينبغي الوصول اليه من خلال موافقة كل الأطراف السياسية. وغالباً ما تحدث عرقلة عملية اتخاذ القرار من قبل أحد الأطراف فقط من باب المناكدة على الأخرين. فبقيت قوانين عديدة معلقة لسنوات، حتى تلك التي أشار اليها الدستور، كما عُطّل إقرار ميزانية الدولة لسنوات.


وكان لغياب الطبقة او الفئات الوسطى، بسبب الحصار الاقتصادي على العراق خلال سنوات ١٩٩١-٢٠٠٣، أثره في فقدان ثقافة تدعم التغييرات الديمقراطية التي حصلت بعد عام ٢٠٠٣. كما ساعدت الهجرة الريفية الى المدن وخاصة الى بغداد والبصرة، في تدهور ثقافة الحضر المدنية، إذ لم تكن لدى المدينة العراقية الآليات التي حازتها المدن الأوروبية ابان الثورة الصناعية في دمج أهل الريف اجتماعياً بأهل المدن. فالمهاجر الريفي يتحرك في بيئة ثقافية رمزية معقدة ذات طابع غريزي وعفوي لا عقلاني، مرتبطة بالفلكلور الريفي، مثل تأليه رمز معين، غالباً مايكون زعيماً قوياً منقذاً، ولا يهم إن كان هذا الرمز شخصية حقيقية أو اسطورية أو دينية. ومهما كان فهم المهاجر للدين بسيطا، فالدين يلعب دوراً بارزاً في ثقافته، لتضمنه العديد من الرموز المقدسة. وكان لتجنيد هذه الفئات في الحشود والمنظمات شبه العسكرية مؤثراً على نتائج الانتخابات لصالح قوائم معينة. كما استفادت اغلبية القوائم الطائفية من أصوات النساء، فقد جرى تجنيدهن في الانتخابات بحكم التقاليد، وهْيبة الدين والطائفة ورموزها، وهي عوامل مؤثرة لعدد كبير من النساء. كما لعبت العلاقات العائلية لدى الفئات الفقيرة في المدن الكبرى، خاصة بغداد، دوراً فائقاً في السلوك الانتخابي للإناث من خلال مكانة الذكور وهيمنتهم داخل الأسرة.


وبالتأكيد إن المستوى المتدني لتعليم الإناث والثقافة الذكورية السائدة في المجتمع العراقي قد اثرت على اختيارات عدد كبير من النساء من مختلف الفئات الاجتماعية لصالح القوائم الدينية والطائفية. كما ان سوء الاوضاع الاقتصادية والموروث بعضها من النظام السابق، أدى الى تفاقم معاناة فئات واسعة من الشعب من الفقر والبطالة، وانعدام الخدمات الاساسية مثل الصحة والتعليم والماء والكهرباء. كان من المؤمل ان تتركز هذه الأصلاحات على رأس مهام النظام الجديد. إنما للأسف لم يجر الاهتمام بها، ولا زالت تعاني منها فئات واسعة حتى اليوم. وكما هو معلوم، فإن الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية ذات دور مهم في ترسيخ الممارسات الديمقراطية وتدعيمها. وساعد اعتماد فئات كثيرة على البنى التقليدية ما قبل الحديثة (مثل العشيرة والقبيلة والعائلة والطائفة والمرجعيات الدينية)، بسبب غياب مؤسسات الدولة الحديثة على تغيير الخارطة السياسية لصالح منظمات لا تؤمن بالعملية الديمقراطية، والتي وجدت في الانتخابات وسيلة سهلة توصلها الى السلطة ومزاياها. واخيراً فقدت فئات كثيرة من السكان الثقة في امكانية تحسين اوضاعهم المعيشية والاجتماعية من خلال الانتخابات، وهناك اتجاه بدأ يتعزز في السنوات الأخيرة بمقاطعة الانتخابات او العدول عن المساهمة فيها.


وبغض النظر عن تفاصيل الازمات المتكررة بين الفرق السياسية التي تحكم البلاد، فإن الغائب الدائم عن المشهد السياسي هو الشعب العراقي الذي جرت وتجري باسمه كل التجاوزات على مصالحه وحريته ورفاهيته. فقد اثبتت النخب السياسية المتعاقبة على الحكم ان اهتمامها الرئيسي يتلخص في حفاظها على المكاسب والمناصب التي حصلت عليها بفضل صناديق الاقتراع، وعلى تحقيق منافعها الذاتية باسرع وقت ممكن.


وخلال السنوات العشرين التي مضت على الاحتلال الامريكي للعراق لم يبقى شيئاً مستوراً او مخفياً عن العلن، فالفاسدون معروفون بالاسم، والمبالغ المنهوبة من الدولة معروف الى اين ذهبت، ومقاولات الدولة المغرية التي وزعت على الأحباب معروف الى اين انتهت، ومناصب الدولة التي احتلت من قبل الاقرباء والاصدقاء كانت قد انهت تماماً التخصص والخبرة في مجالات الدولة الحيوية. وهكذا كأن كل شيء قد توقف عن النمو والتطور، لا بل كأننا نعود الى الوراء، وأصبح من الصعب الخروج من المأزق الذي وقعنا فيه.


واعطى الحراك بارقة أمل في تخطي الأزمة، رغم كلفته العالية من الضحايا، وذلك من خلال شعاراته واهدافه ومشاركة جماهير واسعة من الشباب الواعي ومن الجنسين. و ظهر الحراك كهبة او هياج جماهيري غير منظم، باعتباره جزء من السلوك الجمعي، ألا انه يملك الآليات والوسائل المناسبة للوصول الى أهدافه بطرق تختلف عن اهداف الجمعيات والجماعات المنظمة، كالاحزاب، والنقابات ومنظمات المجتمع المدني وغيرها. فالحراك الاجتماعي هو جماعة تعمل ببعض الاستمرارية لتعزيز او مقاومة التغيير في المجتمع او في المجموعة التي هو جزءاً منها. وهكذا فأن استمراره يعتمد على عوامل كثيرة، تتعلق بنوع التغيير الذي يطمح له، وبنوع الجمهور الذي يتبعه، كما يمكن له ان ينتهي من دون تحقيق اهدافه.


ويبدو ان احزاب السلطة تحضر نفسها للهيمنة مرة اخرى على الدولة، من خلال العودة الى النظام الانتخابي (سانت ليغو) بطريقة مشوهة وليست الاصلية، واعتبار المحافظة دائرة انتخابية واحدة، الذي إذا ما تم اقراره سيتيح لها البقاء بشكل مضمون ودائم. وسيضمن لها بالتالي الاستحواذ على ثروات العراق التي استمتعت بها طوال العشرين عاماً الماضية، والتي لن تتركها مهما كلفها ذلك من امور. وما الانتخابات إلا إجراء أولي لتحقيق سيطرتها على السلطة، ويبقى لديها كل المقومات للسيطرة عن طريق القوة المسلحة. ومشكلة احزاب السلطة انها لا تتمكن من السماح بأي نوع من الإصلاح على حساب مصالحها الذاتية التي تجنيها من الدولة، وهي بهذا ستفوت الفرصة على رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي يحمل في برنامجه العديد من فرص الإصلاح. كل ذلك سيعيدنا الى الأجواء التي سادت في تشرين ٢٠١٩، عندما هبت الجماهير لتعلن رفضها لسلوك الحكومة واحزابها وسياساتها الفاشلة. ولكن هل سينجح الحراك هذه المرة؟